استغرقت صفحات هذا الديوان (210) صفحات من القطع الصغير ، تضمنت (75) تنهيدة نجحن في عبور جسر التنهدات وقد كنّ متفاوتات بالنفس الشعري فمنها ما جاء بعشر تنهيدات ، كقصيدة ( شتاء للذكرى ) ومنها لم يحتمل سوى تنهيدة واحدة كقصيدة ( نغم يتكرر ) ومعظم قصائد الديوان ، تبدأ بالقص الشهرزادي المشوّق من خلال جمل مفرطة في الطول كقوله من قصيدة ( كمان مروان ) : / لا شيء يوقف وجدنا غير الأصابع تنزل الغيم الشريد / مع التماعات لجمل قصيرة كقوله من قصيدة ( نداء ) / ليكون سماءً ، قصائد الديوان قاطبة ، تشهد آلام احتضار عالم قديم ، وآلام ولادة عالم جديد ، لا يقل سوءا عن العالم القديم
الشاعر ( محمد الفهد ) في ديوانه هذا ، أطلق سهم الإبداع في كعب ( آخيل ) المتمثل بمعظم الشعر التقليدي المعاصر الذي اتكأ بكسل واضح طويلاً على صور مكررة معروفة للجميع ، وهذه الصور أضحت كالمدّخرة الفارغة التي يجب رميها من على ظهر سفينة الحداثة إلى بحر النسيان .
فقصائد الشاعر تشع بالدهشة ، وتحفز القارىء على التخيّل ، وليس من مهامها التوثيق أو الوعظ ، وليس لديها قصدية مسبقة ، وهي غامضة في وضوحها ، وتتجه لهدفها بشكل غير مباشر ، وتتقل بشكل مقصود على القارىء بالرموز الشفافة والإحالات الضرورية ، وتملأ قلبه قبل أن تملأ سمعه ، لأن الشعر في الأساس تعبير عن الانفعال وليس تعبيراً عن الصخب والضجيج .
منذ عام ( 1998 ) ولغاية اليوم والشاعر ( محمد الفهد ) يراكم هلالاً فوق هلال ، لعلها تشكل بمجموعها بدراً وفي ديوانه الحديث هذا طلع البدر ، ومن إشعاعاته نقتبس من ( قصيدة سوق النحاسين ) وهو معلم تراثي عريق بمدينة ( حمص) قوله :/ وأمر بباب السوق صباحاً / أحلم أن أسمع طرق النحاسين وصوت الباعة/ علّي أسترجع ما قال صديقي الشاعر / عن أسواق يعشقها في حمص قديماً / ولكني لم أبصر غير حطام يتربع فوق حطام / ومن قصيدة ( فضاء النرجس ) نقرأ / في حمص تحاول عين العاشق أن تهرب / من ظل دمار أو زلزال أخذ الأخضر واليابس والمعنى / لتعيد منازل حارات وشوارع / كانت تومض كالحنطة في نيسان / ومن قصيدة ( وقت لمرايا الغروب ) / سبعة طوابق تنزف وجعاً / فالأعلى يتوكأ فوق الأرض / وذاك الأوسط يتبدى مثل الجبل المحفور قبيل الشام / فكيف تناظر فيها الموت / وكيف تمايل حتى صار زوايا / من قال بأن البيت هنا لم يصرخ يوماً / لم يتوجع حين تناثر أشلاء / فوق جروح الأرض / وصار بقايا / .
إن المقطع السابق مستوحى من تداعيات الحرب على سورية ، ينضح بهالة وطنية صادقة ولكن الغطاء الفني لها كان قاصراً وخاصة في قصيدة ( سوق النحاسين ) التي خلت تماماً من أية صورة فنية التي هي روح الشعر فنحت باتجاه التقريرية والمباشرة .
في فاتحة الديوان نقرأ هذه القصيدة / كم يحزنني أن الأشياء تغير ملمسها / حتى صرت أحس الزهرة تبكي روحي / فكأن ورود الكون تيبس فيها الماء / هل صار الكون خراباً أم أن دموع الدمعة قد شربت ماء الدنيا / حتى نشفت أسماء ودروب / وتعالت أصوات نواح من جرح الأرض / فصارت غيماً / يجرح مشوار الوقت مساء/
هذه القصيدة الآنفة الذكر بعنوان ( سحر المعنى) مع أن عنوان الديوان ( خريف المعنى) تتساقط أوراق المعنى من شجرة هذه القصيدة بفعل السحر الأبيض ، فقد ظهرت معاني الشاعر وهي تلبس ثوب الفن الرفيع ، والشعور الصادق والتأثر الواضح وهي مستوحاة من خيال مجنح وحس مرهف باح بكل أسرار الجمال ، أما الألفاظ فكانت تصر في أخشاب المعاني والوصف جاء انتقادياً تم تغليفه بالواقعية ، وبشبكة عنكبوتية تصل بين المرسل ( الشاعر ) والمتلقي ( القارىء ) دون عناء كل ذلك بأسلوب متين غسل يديه من دم الغموض الذي اتصفت به بعض الدواوين الصادرة حديثاً والتي لا يعرف أصل معانيها حتى الراسخون في العلم .
نزيه شاهين ضاحي
المزيد...