جاء في المنجد:” وَسْوَسَ يُوَسوِسُ وِسْواساً وَوَسوَسة ،
…الشيطان له وإليه: حدّثَه بشرّ، أو بما لا نفع فيه ولا خير،
الرّجلُ أًصيب في عقله وتكلّم بغير نظام،
وسواس الشيطان مرض يحدث من غلَبة السوداء ، ويختلط منه الذّهن،”..
تلك أهمّ معاني الوسوسة، ولقد شاهدت عند البعض من الوسواس ماكلّفهم كثيراً،
تعرّفتُ على تاجر بالمصادفة ، في إحدى الجلسات الطّارئة، وكان شاباً تبدو عليه علائم الصحّة، بل والصحّة المفرِطة، وكان وسواسه أنّه يخاف أن يكون في قلبه علّة ما، ولقد عرف أشهر أطبّاء حمص المختصّين بذلك، وكلّهم طمأنوه إلى أنّه مثل الحصان، ولم يقتنع بذلك فسافر إلى بيروت ليعرض نفسه على أطبّاء الجامعة الأمريكيّة، وبعد أن فحصه الطبيب ودقّق فيه، قال له:” أنت كالحصان ، ولكنْ ، اسمع، عليك أن تُدرك أنّك قد لاتصل إلى هذا الباب حين يأتي أجَلك، فانزع الوسوسة من بالك، لأنّ الوسوسة مرَض آخر، كان هذا في سبعينات القرن الماضي،
وقبل هذا كان لي صديق موظّف، في وجهه صُفرة دائمة، ويسير، وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره آنذاك، وقد تهدّل كلّ شيء فيه، من رقبته، حتى كتفيه، حتى وضعيّة يديه وهو يمشي، ويتكلّم بشيء من الانكسار والحزن، ولم يترك طبيبا ذا سمعة طيّبة في حمص إلاّ زاره، ولديه مصنّف ضخم وضع فيه كلّ التحليلات التي أجراها، وتخطيطات القلب، وصور الصدر، وتخطيطات الدّماغ، وكلّهم يؤكّدون له أنّه مامن شيء يشير إلى مرض فيه، ولكنّه لم يقتنع، وذات يوم سمع أنّ طبيبا مشهوراً جاء من إيطاليا إلى دمشق، فحمل مصنّفَه، وقصد دمشق، وهناك شرح للطبيب حاله، وأنّ كلّ هؤلاء الأطبّاء لم يستطيعوا اكتشاف مافيه، ففحصه الطبيب، وقلّب أوراق المصنّف وهما واقفان، ويبدو أنّه كان يعرف شيئا من العربيّة المكسّرة، ونظر في عيني المريض، وقال له وهو يشير إلى المصنَّف:” هدول الأطباء اللّي شافوك كلهم لا يعرفون شيئا ؟!! فقال له مستبشرا بمعرفة مافيه، “ والله يادكتور متل ماقلتلك”، وفجأة أحسّ بصفعة على وجهه كادت تُفقده توازنه، وبصوت يهدر في وجهه:” إذهب ،روخ، مجنون، أنت مافيكشي”، وبعد هذه الصفعة انتفض صاحبنا يهدر كالحصان، لايشكو من شيء،
ثمّة وسوسة خطيرة، وهي حالة نفسيّة يُصاب بها البعض، فيسمع صاحبها أصواتاً تكلّمه، وهو متيقّن من ذلك، يُجالسك ويقول لك ألم تسمع؟ علما أنْ ليس ثمّة صوت، وبعضهم يقتنع أنّه يرى أشخاصا ميتين يكلّمونه، ويتحدّث إليهم، وما من قوّة تُقنعه أنّ مايعانيه هو الوسواس، وتلك أمراض نفسيّة خطيرة، قد تتطوّر إلى مالا تُحمَد عقباه إذا لم تُعالج، وقد تصل بالبعض إلى حدّ الانتحار، أو القتل.
هنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ مشكلة مجتمعنا، في غالبيّته مازالت تنظر إلى المرض النفسي على حالة من الجنون، وهذا ليس صحيحا، لأنّه كما يمرض (الجسم) تمرض (النّفس)، وفي البلدان المتقدّمة يُعدّ الذهاب إلى الطبيب النفسي مسألة عاديّة، لأنّها قد تكشف عن بوادر صغيرة يمكن معالجتها، ولا تُترك تتضخّم، وتتطوّر بشكل خطير.
دوافع الوسوسة كثيرة، ومتشابكة، ومعقّدة، وما أدري ماإذا كان انصراف أجيالنا الطّالعة إلى الموبايل وفضاءاته يمكن أن يُعدّ في خانة الوسوسة، وإلاّ فما معنى أن تقول لشاب، وأهله يسكنون في الطابق الثاني من البناية،:” قلْ لأبيك أن يتّصل بي”، فما يتّصل أحد، وحين تسأله عن ذلك يبتسم ابتسامة عجيبة ويقول لك” نسيت”؟!!
على ذكر الوسوسة ، في تاريخنا الأدبي شاعر لقبه” ماني الموسوَس”، وهو شاعر مصري، اسمه أبو الحسن محمد بن القاسم، وهو لم يكتب إلاّ في الغزل، وشعره رقيق، ومن أشهر قصائده “ ياحاديَ العيس عرّج كي نُوَدّعهم” التي غناها المطرب العراقي الشهير ناظم الغزالي، فما أجملها من وسوسَة…
عبد الكريم الناعم