كان الأديب السوري الراحل حنا مينه ينصح الكاتب أن يتأنق في كتاباته .. أياً تكن نوع الكتابة رواية كانت أم قصة أم مقالة .. وكان يقول للكاتب : تأنق يا بني..
إذاً..ولمن لا يفهم معنى الجمال إلا من خلال جمال الشكل والثياب فهو مخطئ ، فالأناقة تتخذ أشكالاً عديدة، ومن ضمن هذه الأشكال أناقة الجسد والثياب ، في الحقيقة كل تصرف في الحياة يمكن أن يتأنق به الإنسان ، فالعمل ، والطعام ، والكتابة ، والموسيقى ، وجميع أنواع الفنون ، وحتى الحديث يدخل في مجال الأناقة ، ولقد قدموا الأخلاق على العلم ، والأخلاق هي نوع من التأنق في الحياة .. فيقال عن فلان من الناس .. إنه دمث الأخلاق .. أي أنيق في تصرفاته .. وحتى في كثير من الأحيان نصف لعبة كرة القدم بأنها أنيقة وأن الفريق الفلاني أنيق في لعبه.
ورب إنسان أنيق تلتقيه ، فما أن يتكلم حتى تكتشف أن أناقته في لباسه لا تتوافق بالمطلق مع منطقه في الحياة ، وفهمه للإنسان ، وهذه هي الأناقة الظاهرية .ويظن الكثير من الناس وخاصة النساء ، إذا غيروا من طريقة ولكنة كلامهم ، واصطنعوا المدنية في لفظ الأحرف ، فإنما يكون هذا ضربا من الأناقة لجذب انتباه الآخرين ، بينما تصرفاتهم في منازلهم لا تمت إلى الرقي والمدنية بصلة ، وهذا نوع من البهورة وهذه الكلمة جاءت من التوابل .. أو البهارات .. ومع أنها كلمة عامية و أصلها عربي .. وهي كما قلنا البهارات أو التوابل.. ولهذا فلا فرق إن قلنا كلمة / بهورة / والمعنى هو شعور الإنسان بالعظمة وأنه في مكانة غير مكانة الآخرين وهو يعطي لنفسه صفات أكبر من صفاته ، ويبهرج درجته في الحياة ويتصنع كل شيء فهو فيلسوف زمانه ، وهو قائد معركة ذات السواري ، وهو المهندس الذي بنى الأهرامات وهو الذي كتب الأبجدية الأولى .. الخ .. وإذا طرحت أي حديث مهما كان نوعه فإنه ينبري للنقاش ، فهو يفهم في السياسة والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والفنون وربما أول رائد فضاء وطأت قدماه سطح بلوتو..وهكذا.
وإذا سنحت لك الفرصة وعرفت حقيقة معدنه فهو لم يقرأ كتاباً واحداً في حياته وهو لم ينل أي شهادة علمية وهو غالباً يحفظ بيتاً من الشعر .. أو بيتين يكررهما أينما ذهب وأينما جلس .. والنساء أكثر / بهورة / من الرجال ، فمثل هؤلاء النساء يعرفن مواطئ الضعف عند الرجل ، يعلمن حق العلم أن البهرجة والتزين ، والماكياج.. وإبراز مواطن الجمال .. كل ذلك يغري الرجل ويوقعه في مطب الأنثى فهناك نساء أو فتيات أو بنات يتصنعن لكنة ناعمة ولكن صوتها في منزلها / جعاري/ كما يقال ، كما أنها تتأنق في لباسها وزينتها وكأنها ملكة جمال الطاووس وتنفق على لباسها وزينتها بمقدار راتب موظف مع العلم أن والديها يعانيان الفقر ، وعلى فكرة هذا الكلام ليس من باب مهاجمة تزين المرأة أو جمالها فهذا من حق أي أنثى ولكن ليس من حقها المبالغة في التبرج والماكياج والزينة ، فيما أهلها يعانون الفقر المدقع وربما تحمل «جهاز خليوي» يبلغ ثمنه ضعفي أو أضعاف ما يصرفه أهلها لتأمين قوت حياتهم. وهذا الكلام ينطبق على الرجال المتأنقين أيضاً.. أو المبالغين في تأنقهم .
لقد سألتني إحدى المريضات : هل صحيح أن هناك أطباء يتقاضون خمسة عشر ألفاً كمعاينة ؟! فقلت لها هناك أطباء يتقاضون عشرين أو ثلاثين ألفاً لقاء معاينتهم ولقد قامت هذه المريضة بزيارة طبيبة في دمشق اختصاصية في أمراض المفاصل وتقاضت منها الطبيبة عشرين ألفاً لقاء زيارتها ثم عادت بوصفة تثير الضحك والبكاء معاً والوصفة كانت عبارة عن بروفن وفيتامين! لا أعرف من هو المتبرج في حياته هل هي تلك الطبيبة التي تبلغ معاينتها مقدار راتب موظف أم تلك المريضة التي ظنت أنها سوف تلقى علاجاً يعيدها شابة و ينقذها من مرض الروماتيزم ؟ كيف يمكنني أن أقنع زميلتنا تلك أن معاينتها مخالفة لنواميس حياتنا و للقانون أيضا ؟
بل كيف ومن يستطيع إقناع تلك المريضة وغيرها من المرضى أن داء الروماتيزم لا شفاء نهائي منه وأنّ جلّ ما يمكن لأعظم الأطباء أن يفعله هو وصف أنواع المسكنات والتفنن في وصف مضادات الالتهاب والأدوية المثبطة للمناعة؟
يمكن لكمان أن يعزف وحيداً في مهب العاصفة ما زلت أذكر ذلك المشهد المثير للبكاء في فيلم “ التايتنك “ حيث كانت الفرقة الموسيقية تعزف لحناً رومانسياً فيما الباخرة تغرق شيئاً فشيئاً
نحن يا أماه نغرق باخرة حياتنا في تفاصيل رديئة وعادات سيئة فيما أقف أنا وحيداً أعزف سيمفونية الحضارة الآن .. الآن و في هذه اللحظات التي أكتب فيها هذه المقالة في أحد المقاهي ينتابني الألم وأنا أرى جميع الأفواه .. أفواه الرجال والنساء ترشف دخان النراجيل والسجائر بشكل مثير للإقياء في هذه اللحظات يمسك كل شاب و كل فتاة بجهاز خلوي وكل واحد مطرق في جهازه مثل ربوت آلي وفي الوقت نفسه تنطلق من مكبرات الصوت أغان هابطة .. تشبه تماماً هذا الزمن الرديء هل هذا هو الجيل الذي ننتظره لكي ينقذنا من محنة الحياة؟! ومن اللصوص الكبار الذين يسرقون لقمة عيشنا ومن الحيتان الكبيرة التي تهرب وقودنا وكهرباءنا و خبزنا وحتى الهواء الذي نتنفسه . رحماك أيتها الحياة رحماك .
د.نصر مشعل