ثمة كتب تستنفر حواس قارئها وأحاسيسه دفعة واحدة حتى لا يستطيع تركها إلى آخر كلمة من النزف المتواصل منذ أول جملة ,هذا ما ينطبق على المجموعة القصصية «أحلام مستباحة «لجمال قاسم السلومي ,خاصة وأن جميع القصص مكتوبة بضمير المتكلم مما يجعل القارىء في حالة التباس بين شخصيات القصة وبين الكاتب ذاته ,وقد يأسرك العنوان وهو العتبة الأولى في أي نص مثل عنوان القصة الأولى في المجموعة (الكرز المر ) ,يحكي فيها القاص جمال السلومي عن مريم الجميلة اليانعة كحبات الكرز التي رفضت الزواج لأنها لم تجد بعد الرجل الذي يلبي طموحها فقال: «لقد أبت على الدوام أن تكون كأمها بضاعة تباع لأول عابر سبيل في سوق النخاسة , ورفضت كل رجل لا يلبي طموحها وإن كان يلبي طموح جيوب ذويها ,ورفضت أية وصاية . حتى انتشرت إشاعة عن رؤية شبح رجل يخرج من بيتها ذات مساء فأسبغوا عليها لقب «العايبة «وأجبروا أمها الأرملة على تخييرها بطريقة الموت فإما أن يجعلوا شقيقها الصغير الوحيد يقتلها ذبحا بالسكين ,أو أن تجبرها الأم على شرب السم وهذا ما كان . والمفارقة المتوقعة في النهاية أن يخبر الطبيب أمها أن الفتاة المنتحرة بالسم عذراء.ويسترسل القاص في شرح تفاصيل حياة مريم وأمها الأرملة اليتيمة منذ كانت في العشرين من عمرها وهي أم لطفلين بعد أن باعها أخوها لأول عابر سبيل ,وبدأت تسرد تفاصيل حياتها الموجعة حيث الفقر والترمل واليتم والعمل كخادمة في البيوت حتى تربِّي ولديها ,وكيف لم يفعل والد الراوي وخال الضحية أي شيء حيال قرار الرجال بضرورة ذبح مريم لأنها «عايبة» وأنه نهر ولده عندما قال له :أبي رأيتك في المكتب تحتضن السكرتيرة فلماذا لم يذبحك أحد ,ثم يسخر بكلام كالعلقم من استزلام رجال الحي فيقول: ولكي لا تتلوث لحى قراصنة الشرف بالعار, ولكي تبدو القضية مجرد انتحار حقير, انفضَّ الرجال إلى وكورهم وقد تركوا عيونهم في المكان .
الناقوط
أما في قصة الناقوط يحدثنا القاص السلومي عن حادثة حصلت معه عندما عُيِّن مدرساً في مدينة الرقة وكيف كان رجال القرية يبدؤون رحلتهم مع كل معلم يأتي إلى القرية بأن يصطنعوا شجاراً بينهم وعندما يتدخل المعلم لفض الشجار, فإنهم يبدؤون بضربه وبهذا «يعلمون عليه ويأكلون رأس القط منذ أول يوم له في المدرسة «ثم يمضي القاص بتعريفنا بكلمة الناقوط وهو كهف ببطن الجبل ينقط المياه باستمرار, يرتاده يومياً مع مجموعة من شباب القرية فيستمر أحدهم بالسير في الناقوط رغم انعدام الأوكسجين إلى أن يختفي ,ثم تتمكن الشرطة من إخراجه ميتاً ,ويشير القاص إلى أن الناقوط الكهف كان الممر الذي هربت منه زنوبيا إلى حصن شقيقتها زبيبة بعد أن حاصرها أورليان بجيوشه,وأن الكتابة الآرامية المنقوشة على صخر الكهف تقول ذلك.
أما قصة «حلم أول العام « فتحمل طابع الذكريات حول حلم راود الكاتب في ليلة عيد الميلاد , بعد أن أطال السهر وأكثر من الطعام فتوهم أنه ميت بسبب برودة الطقس وعدم النوم ولغة القصة واضحة لا تحمل أي صور أوخيالات ولغتها تقريرية وربما هي القصة الأقل تشويقاً في هذه المجموعة .
«شاتو»
في قصة جزيرة الأحلام يصف لنا الكاتب جزيرة ما بضمير الراوي ,لا يحدد مكانها بل يسمها «شاتو» وهو اسم يبدو أن الكاتب أطلقه جزافاً ليغطي على اسم الجزيرة الحقيقي التي تفوح منها رائحة النفط , و يسيطر عليها الغرباء بشركاتهم واستثماراتهم ويستغرب القاص موت جميع المواليد فيها حتى أن علي وفاطمة الزوجين الشابين اللذين قدما إلى شاتو بهدف العمل لم يتمكنا من إنجاب أي طفل رغم الإجهاضات المتكررة لفاطمة ورغم أنها تمكنت في إحدى المرات أن تكمل حملها حتى يوم الولادة عندما امتنعت من زيارة أي طبيب في «شاتو» إلى أن الوليد مات ,واستأصل الطبيب رحم فاطمة .طبعاً القاص لايوضّح سبب الوفاة سوى بكلمة أخيرة تقول: « لقد حكمت عليك يد الغرباء بالموت « ويصف حال أهل شاتو بأنهم فقراء لا حول لهم ولا قوة رغم النفط والثروة فقد كبلتهم الشركات باتفاقيات جعلتهم عاجزين عن أي فعل .طبعا القاص لم يطرح الحلول ولم يعلن عن ضرورة قيام أهل شاتو بردة فعل تجاه موت مواليدهم فكأنهم مخدرون مكبلون مثل حاكمهم الذي وصفه القاص بأنه حاكم بالمال وليس بالرعية .
انهزامية وتمرد
يحاول القاص من خلال ابتكار طرق تمرد مدهشة ضد الفساد لشخصياته أن يعطي حلولاً لتلك الشخصيات كادعاء الجنون كما في بطل قصة « العقل في إجازة « التي تتحدث عن موظف من الدرجة الثانية لم يتمكن من تعديل وضعه الوظيفي رغم حصوله على إجازة جامعية فينهي حياته الوظيفية بتمرد على واقعه حين يدعي أنه عين مديراً عاما للمؤسسة التي يعمل بها ويبدأ بتغيير سلوكه مع الموظفين, خاصة عندما ينزوي المدير الحقيقي في مزرعته بانتظار وصول قرار الإقالة , ثم ما يلبث أن ينكشف الأمر ويضطر الموظف للإستقالة وهي قصة تعالج ضرورة تعديل الشهادة للموظف إذا ما تمكن من الحصول على أُخرى أعلى منها, ورغم وجود مادة في قانون العاملين يلزم بتعديلها لكن الموضوع يتحكم فيه المدراء تحت يافطة (لا يوجد شاغر).وينهزم البطل في النهاية بتقديم الاستقالة.
جوائز خلبية
أما قصة «وحجبت الجائزة الأولى « فتعري مصداقية الجوائز الأدبية وتضع القائمين عليها على المحك حيث يفوز في كل عام كاتب واحد اسمه نجيب الراسي. مما حدا ببطل القصة أن يعيد المشاركة في المسابقة ذاتها بعد عدة أعوام وبذات القصة التي خسر الجائزة بعد المشاركة بها ,وذيل القصة باسم نجيب الراسي وكانت المفاجأة بحصوله على المركز الأول وعندما خرج لتسلم الجائزة عوضاً عن نجيب الراسي الذي كان خارج البلاد ولم يشارك أصلا ً ,قررت اللجنة حجب الجائزة الأولى بعد أن علمت بلعبة الكاتب الذي فضح آلية إجراء بعض المسابقات ,وهذا يفضح ويعري مصداقية بعض الجوائز التي تعطى لأسماء بعينها دون أن تكلف اللجنة نفسها عناء قراءة باقي القصص المشاركة .
أخيراً
يلتبس أسلوب السرد على المتلقي في بعض قصص السلومي حتى يعتقد القارىء أن القاص يتفلت من كل معايير القص التقليدية ويختص بطريقة خاصة به ويتجلى ذلك خاصة في القصص التي تبدو مجرد سرد لمذكرات شخصية ولكن الأسلوب الرشيق ينقذ الكاتب في إبقاء القارىء أسيراً حتى النهاية ,هناك بعض الهنات كالأخطاء الشائعة مثل كلمة «توأمي «في ص 55 وكلمة (مريديه) في ص 69 والمفروض أن تكون مرفوعة .وكلمة (تخرج من الجامعة )عوضاً عن (في الجامعة) وهي خطأ شائع ,ولكن تلك الهنات لم تفسد للجمال قضية فالمجموعة القصصية جديرة بالقراءة مكتوبة بلغة سليمة وشاعرية غير مقحمة , بل هناك تعابير جميلة مثل «اهتراء روحي» ص 87والكرز المر وغيرها الكثير الذي يجعل من «احلام مستباحة» مجموعة جديرة بالقراءة .
ميمونة العلي
المزيد...