تتجه أنظار السوريين اليوم نحو صناديق الاقتراع في مشهد سياسي غير مسبوق، حيث فتحت المراكز الانتخابية في المحافظات أبوابها لاستقبال أعضاء الهيئات الناخبة للإدلاء بأصواتهم في أول عملية لانتخاب مجلس الشعب منذ التحرير.
تأتي هذه الانتخابات تتويجاً لمرحلة انتقالية حاسمة، وتمثل إيذاناً ببدء عهد جديد من المشاركة السياسية الفاعلة بعد عقود من الاحتكار الأُسري للسلطة.
تمثل هذه الانتخابات نقلة نوعية في الممارسة السياسية، حيث تنتقل السلطة التشريعية من حالة “مجلس التصفيق” الذي كان سائداً طوال خمسة عقود، إلى هيئة تشريعية فاعلة تشارك في صناعة القرار.
سيتولى المجلس الجديد مهام تشريعية محورية تبدأ بسن القوانين وإقرارها، مروراً بتعديل أو إلغاء القوانين السابقة، والمصادقة على المعاهدات الدولية، وإقرار الموازنة العامة للدولة، وصولاً إلى منح العفو العام.
كما سيضطلع المجلس بدور تأسيسي تاريخي عبر تشكيل لجنة متخصصة لإعداد دستور دائم للبلاد يُعرض على استفتاء عام عند استقرار الأوضاع.
اعتمدت اللجنة العليا للانتخابات نظاماً غير مباشر للتصويت، يتم من خلاله اختيار أعضاء المجلس عبر هيئات ناخبة محلية، وذلك نظراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد.
وقد جاء هذا الخيار كحل عملي للوضع الديموغرافي المعقد الناجم عن سنوات الحرب، ووجود أكثر من ثمانية ملايين لاجئ ونازح، بالإضافة إلى تحديات فقدان الوثائق الثبوتية وعدم انتظام العناوين السكنية، وغياب قاعدة بيانات وطنية متكاملة للناخبين.
يتكون المجلس الجديد من 210 أعضاء، يتم انتخاب 140 عضواً عبر الهيئات الناخبة، بينما يُعيّن رئيس الجمهورية 70 عضواً آخرين من أصحاب الكفاءات العالية.
حرصت اللجنة العليا للانتخابات على تكوين الهيئات الناخبة وفق معايير دقيقة تجمع بين التمثيل المجتمعي والكفاءة المهنية، حيث خُصص 70% من المقاعد لأصحاب الكفاءات والتخصصات المختلفة من حاملي المؤهلات الجامعية، و30% للأعيان والوجهاء من حاملي الشهادة الثانوية العامة على الأقل، مع ضمان تمثيل المرأة بنسبة لا تقل عن 20%، وإتاحة المشاركة للمهجرين وذوي الشهداء.
لضمان نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها، اتخذت اللجنة العليا للانتخابات سلسلة من الإجراءات المشددة تشمل الإشراف المباشر على العملية عبر لجان فرعية في مختلف المناطق، بمشاركة رقابية واسعة من نقابة المحامين السوريين.
كما اعتمدت نظام الفرز العلني أمام وسائل الإعلام بعد انتهاء التصويت مباشرة، وشكلت لجان طعون قضائية مستقلة في كل محافظة للبت في أي اعتراضات.
تمثل هذه الانتخابات محطة تاريخية في مسار انتقالي شاق، تسعى من خلاله سوريا إلى تأسيس نظام سياسي جديد يقوم على التعددية والمشاركة.
ورغم الطبيعة الاستثنائية للنظام الانتخابي المؤقت الذي فرضته الظروف الراهنة، فإنها تبقى خطوة عملية أولى وأساسية نحو بناء مؤسسات تشريعية تمهد لدستور دائم ومستقبل ديمقراطي مستقر، يعيد لسوريا مكانتها ويسطر صفحة جديدة بيد أبنائها.