التضليل الإعلامي الممنهج وأهدافه المظلمة

في مشهد إعلامي متشابك ، تبرز بين الحين والآخر حوادث تكشف الوجه الخفي لمعركة الروايات التي تدور رحاها بعيداً عن ساحات الحقيقة.
حادثة النشر الأخيرة التي تعلقت برواية مقتل شاب سوري في طرطوس ، ليست مجرد خبر كاذب تم تداوله ثم سحبه، بل هي نافذة نطل من خلالها على عالم التضليل الإعلامي الممنهج وأهدافه المظلمة.
ففي أواخر آب الماضي، انتشر خبر مروع كالنار في الهشيم، ينقل رواية مفادها أن عنصراً من الأمن العام السوري أقدم على قتل شاب والتنكيل بجثته بطريقة وحشية.
لم تكن هذه الرواية مجرد منشور عابر على وسائل التواصل الاجتماعي، بل نشرت بشكل مفصل على موقع إلكتروني معروف تحت عنوان درامي يطالب فيه وزارة الداخلية بالتوضيح.
الخبر، بكل ما يحمله من تفاصيل مروعة، هز المشاعر وأثار موجة من الغضب والحزن.
لكن المشهد لم يكتمل، بعد أيام، وبهدوء مريب، اختفت كل تلك المنشورات، تم حذف كل ما كتبه، بل وتم تعديل الخبر الأصلي على الموقع الإلكتروني وحذف الفقرة الخاصة بالحادثة دون أن يقدم أي تفسير أو اعتذار للجمهور الذي صدم بالخبر أولاً ثم اندهش باختفائه لاحقاً.
هذا التصرف أثار تساؤلات أكبر من تلك التي كان الخبر نفسه قد أثارها، و التفسير الأكثر ترجيحاً جاء من الجهة المعنية نفسها، عندما نشرت وزارة الداخلية السورية صوراً لـ “خلية إرهابية” تم القبض على أفرادها، مشيرة إلى أن الموقوفين أحياء، مما يعني أن الرواية الأساسية عن مقتل وتنكيل كانت مختلقة من الأساس.
هذه الحلقة ليست منفصلة عن سياقها، بل هي جزء من إستراتيجية أوسع لتضليل الرأي العام.
وراء هذه التصرفات تكمن دوافع متشعبة، بعضها سياسي صرف يهدف إلى تشويه صورة مؤسسات الدولة السورية، وخاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تشكل عماد الأمن والاستقرار، بهدف تقويض شرعيتها وزعزعة ثقة المواطن بها.
كما أن إثارة النعرات والانقسامات الاجتماعية تمثل وقوداً لهذه الإستراتيجية، التي تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وإفشال أي مسعى للمصالحة الوطنية.
وهناك أيضاً دوافع نفسية، تستغل حاجة الناس الملحة للمعلومات في أوقات الأزمات، وحالتهم النفسية الهشة، مما يجعلهم أكثر استعداداً لتصديق أي خبر يلامس مخاوفهم العميقة، حتى لو كان مفزعاً وغير منطقي، ولا ننسى الدوافع الاقتصادية، فالأخبار الصادمة تدر تفاعلاً ومشاهدات كبيرة، مما يترجم إلى أرباح مادية على المنصات الرقمية، أو قد يكون التمويل قادماً من جهات معينة تدفع لأجندة سياسية محددة.
أما الأهداف التي يسعى مروجو هذه الشائعات إلى تحقيقها، فتتخطى الضجة الإعلامية العابرة، إنهم يستهدفون أساساً ثقة المواطن بمؤسسات دولته، ويسعون إلى تخويفه منها بدل أن تكون ملاذه الآمن. كما يهدفون إلى زعزعة الاستقرار الداخلي وإشاعة جو من الشك والخوف، وهو ما يعيق أي جهود حقيقية لإعادة البناء والتعافي.
على الصعيد الخارجي، توفر هذه الروايات المزورة مبررات جاهزة للتدخلات الأجنبية وتشويه صورة البلاد، مما يعيق رفع العقوبات أو الحصول على الدعم اللازم لإعادة الإعمار.
في مواجهة هذه التضليل المعلوماتي المصطنع، تبرز الحاجة إلى وعي جماعي يقظ، و النصيحة الأهم هي عدم الانجرار وراء أول خبر صادم نراه، وعدم تصديق أي محتوى عاطفي يهدف إلى الاستفزاز، و يجب دائمًا العودة إلى المصادر الرسمية والموثوقة، مثل صفحات الوزارات والمؤسسات الحكومية، والتحقق من الخبر عبر أكثر من مصدر قبل تصديقه أو مشاركته، و من المهم أيضاً الانتباه إلى لغة الخبر وأسلوبه، فالأخبار المهنية تتسم بالحياد والموضوعية وتبتعد عن اللغة العاطفية والتحريضية.
يمكن الاستعانة أيضاً بمنصات التحقق من الأخبار التي أصبحت منتشرة مؤخراً، والتي تقدم خدمة الكشف عن صحة الأخبار وتكشف الزائف منها، بل يمكن للمواطن أن يكون جزءاً من الحل بالإبلاغ عن أي محتوى مشبوه لتلك المنصات لفحصه.
في النهاية، حماية مجتمعنا من التضليل مسؤولية مشتركة، تبدأ بوعي كل فرد منا وتتحول إلى سلوك جماعي يصون الحقيقة ويحافظ على تماسكنا الوطني في وجه من يريدون بنا شراً.

المزيد...
آخر الأخبار