إجازة ليوم واحد …!!

ذلك الصباح في تلك الدائرة كان متميزاً . ثمة هرج ومرج وأحاديث جانبية ، واسم « عائدة » يتردد على كل شفةٍ ولسان ٍ من الموظفين والموظفات .
« سوف تأتي لنا بالحلوى والسكاكر .. وسيأتي معها « المحروس » زوجها الثاني .. اتصلت بي وأخبرتني …!!». أذاعت الموظفة التي تعمل مع عائدة في « قسم سندات الملكية في الدائرة ». وتابعت وهي تقول متفاخرة …!
« بالهنا … علينا أن نعمل لها زفةً … ما رأيكم ؟!»
مطّ أحد الموظفين رقبته داخل الغرفة وسأل :
« من الذي سيأتي معها ..».
أجابت ضاحكةً :
« زوجها الجديد … ولست أنت يا ذكي ..!!
عندما سمع مدير الدائرة بالخبر استدعى رئيس القسم الذي تعمل فيه عائدة ، وفور مثوله بين يديه سأله :
ماذا لديك في القسم؟!!.
لا شيء غير عادي يا استاذ …!!»
كيف لا شيء غير عادي .. ما قصة «عائدة؟!».
بلع رئيس القسم ريقه وقال :
« طلبت أول أمس إجازة ليوم واحد … قدمتها لي ، وأنا بدوري اقترحت على سيادتكم الموافقة … وسيادتكم وافقتم …!!»
« وهل كنت تعرف سبب الإجازة ؟!»
تلكأ رئيس القسم قبل أن يجيب المدير :
« قالت لي إنها سوف تعقد قرانها …!!».
احمرت عينا المدير ورمق الرجل الواقف أمامه بنظرةٍ ذات مغزى وانقضّ عليه بسؤال:
« ولماذا لم تخبرني بذلك ..؟!!».
لم يدر بماذا يجيب لكنه قال بعد صمت قصير بهدوء :
« لم أدرك أن الأمر مهم ويستوجب أن أخبر سيادتكم به …!!»
وانقض عليه المدير بسؤال ثانٍ :
« هل قالت لك من هو « سعيد الحظ » الذي اختارته ؟!»
أجاب رئيس القسم على الفور :
« لا والله … لكنها ألمحت إلى أنه بطل مثل زوجها الشهيد …!!»
« ألم أقل لك ، أكثر من مرة ، أريدك أن تخبرني بكل كلمة أو همسة في قسمك
… يبدو لي أنك لست أهلاً لرئاسة قسم…!!».
كانت عائدة في عامها الخامس والعشرين ، عندما استشهد زوجها ، تاركاً لها طفلاً في الثالثة من عمره ، في مواجهة شرسة مع العصابات الإرهابية في ريف حلب الشرقي . وقد أبلى بلاءً حسناً ، فكان رامياً لدبابة ، وقال عنه قائده وهو يعزي باستشهاده :» لقد فقدنا ، بفقده ، أمهر رامٍ في اللواء .. لقد دكّ أوكار الإرهابيين .. وكانت كل رماياته تصيب أهدافها بدقة …!!».
وثمة صورة لرجل بلباسه العسكري أمام دبابة .. هو « أحمد » زوجها الشهيد الذي تفخر به ، معلقة على جدار غرفتها .والصورة نفسها تزين مدخل المدرسة التي سميت باسمه .
وعائدة ، صبية حسناء ، فارعة الطول ، عيناها خضراوان وشعرها أسود فاحم ، ووجهها مدوّر ، كرغيف الخبز الخارج لتوه من التنور ، كما اعتادت حماتها أن تقول، وكانت الحماة سميحة ، التي تدعوها عائدة «الخالة سميحة» ، تقيم معها ومع ابنها ، بعد استشهاد أحمد ، وقد كررت سميحة أمام عائدة ، بأسف وحزن عبارتها التي باتت مألوفة :
« لو كان لدي ابن عازب لزوجناك له ، أنت كاملة الأوصاف .. أي والله .. جمال وأدب وحشمة .. وأخلاق عالية … !!»
وتردف الحماة قائلة :
« أوصيك يا ابنتي أن تنتبهي لنفسك …!!»
وكانت عائدة ترد على حماتها بكلمات قليلة ، فتقول :
« من ينظر إلي نظرة سوء .. سوف تنال فردة حذائي من رأسه .. !!».
وكانت الخالة سميحة تسر لهذا الكلام .
غير أن عائدة بدأت تشرد ، ولعلها تفكر بشيء ما . كانت تحلم ببطل مثل « أحمد » . تعتبر نفسها مسؤولة عن كل كلمة تقولها أو تصرف تقوم به ، لأنها زوجة شهيد . فهي تواظب على عملها الوظيفي بعدما جاء قرار تعيينها هنا في دائرة السجل العقاري ، لأنها زوجة شهيد . وأول عمل قامت به أنها أعادت ارتباطها بالدراسة الجامعية في كلية الحقوق .
في الدائرة لم يبق زميل عازب أو متزوج ، إلا وحاول التقرب منها . وأول من فعل ذلك كان مدير الدائرة ، الذي أسمعها كلمات تنمّ عن إعجاب شديد بها ، وأنه مستعدّ لتلبية كلّ طلباتها لو وافقت … وأنه مستعد أن يطلق زوجته من أجلها …»
وقبل أن يسترسل في عرضه ، قاطعته قائلة وهي تخرج من مكتبه :
« أستاذ … أنت مدير .. وأنا موظفة …!!»
اعتذر المدير ولم يرها بعد ذلك ، إلا من بعيد
غير أن بعض الموظفين والموظفات في الدائرة ، لم يتركوها بحالها .
« إنسانة غامضة ومعقدة .. لا تضحك ولا تبتسم …!!»
قال أحدهم :
« فيها شيء مدهش .. عندما تمشي فإن لمشيتها هيبة ، ووقعاً على الأرض . وعندما تفتح فمها ، فإن كلماتها القليلة .. من الذهب الخالص … ليتها قبلت الزواج من أخي …!!».
« أنا جامعي ، وعازب ، ولدي بيت واسع … ولم تقبل بي .. لعلها اختارت رجلاً رائعاً بكل المقاييس …!!»
عندما أطلت عائدة من باب الدائرة ، بلباسها الأسود الجميل ، كانت تتأبط ذراع رجل طويل يتعثر في مشيته ، يرتدي اللباس العسكري ، وكان واضحاً أنه أصيب في رجله اليسرى …!!.
راح العروسان يدوران من غرفة إلى أخرى ، يوزعان الحلوى والسكاكر ، وسط ذهول الجميع ، بينما كانت العروس تردد عبارة :
« زوجي الجريح البطل ثائر …!!».
عيسى إسماعيل

المزيد...
آخر الأخبار