منذ أن أطلق الإنسان صرخته الوجودية الأولى مُعلناً عن تخلّقه كان الحب سبباً من أسباب انوجاده ، ودافعاً من دوافع الحياة ، واستمرارها ؛ فلولا الحبُّ ما كانت الحياة إنها حقيقة لا يختلف حولها اثنان ، وفي هذه المقاربة نُحاول أن نتبيّن هذه الحقيقة في شعر شاعرنا : إياد خزعل الذي يبدو منشغلاً في سعيه إلى محاولة وضع تعريف للحب وفق تصوّره ، وموقفه منه ، وهو ما يبدو من خلال قصيدته التي وسمها بلفظة مفردة دالة : (الحب) [1]إذ يُريد بهذا العنوان أن يلفت انتباه المتلقّي إلى أنَّ ثمّة غموضاً يكتنف ماهيّة هذا العنوان ، ويفتقد إلى معرفته ، ولذلك جاء بالعنوان مُعرّفاً؛ ليفيد التعظيم والرغبة في تجلية حقيقته .
إنَّ الشاعر معنيٌّ بمحاولة فهم هذا الشُّعور الخفيّ الذي يتحكَّم بالإنسان، ويُحدّد سمت حياته ، وربَّما يُغيّر في كثير من تفاصيل عمر الإنسان ، ومن اللافت في قصيدة (الحب) أنَّ الشاعر خزعل قد توجَّه إلى الحبِّ بوصفه حالةً ، وقد جسّد منه هيكلاً بتخلّقه ، مانحاً إيَّاه صورة مستقلةً بذاته ولذاته ، إذ الحبُّ عنده غير مرتبط بثنائية الرجل / المرأة كما هو مُتوقّع ، بل إنَّنا نجد الشاعر يُخاطب الحبَّ بصورة مُفردة وبصيغة المذكر ، إنه يتوجَّه إلى الحب المُنزّه عن حالة حسيّة ماديَّة ، فتوجَّه الشاعر إلى الحب بوصفهِ مقولةً من مقولات الكون الوجوديَّة ، وحقيقة من حقائقه البانية للكون كله، ولذلك فإنَّه يربط بين وجود الحب ووجود ظواهر الطبيعة الأساسية التي تُسهم في جمال الحياة وديمومتها يقول :
لولاكَ لمْ تُمطرْ سماءٌ
فوقَ هذي الأرضِ
في يومٍ مياها
لولاكَ لمْ تُزهرْ جبالٌ
يعشقُ الرَّاعي ذُراها
يتبدَّى الحبُّ في هذا الاستهلال ضرورةً من ضرورات الطبيعة وفق ثنائية قائمة على علاقات تفرضها قوانين الوجود، وسنّة الحياة؛ فالأرض بحاجة إلى مطر السماء، لنمائها وتجددُّها ، وكذلك الجبال التي تزهر ؛ لتكون سبباً في عشق الراعي ذُراها كونها سبباً من أسباب العيش له ولماشيته ، ووفق هذه الثنائية يتكشَّف الحبَّ سبباً رئيساً من أسباب الحياة واستمرار الإنسان الوجودي فيها .
والحب ليس عاطفةً آنيَّةً لدى شاعرنا ، أو مشاعر عابرةً تعتري الإنسان في لحظات من عمره ، وإنَّما هو موقفٌ مرتبطٌ بحياة الإنسان وحياته كلها ،إنَّه حبٌّ يتجاوز آنيَّة الزمان إلى الخلود ، ومن اللحظة إلى السَّرمدية ، إنَّه فعلٌ يتسامى فيه الإنسان إلى عالم المُثل والقيم النبيلة:
لكَ أيُّها الحبُّ الَّذي أشعلْتَ ناراً
في قلوبِ النَّاسِ
أبتهلُ الصَّلاة
فامحُ ظلامَ الكونِ
وامنحْ نورَكَ القدسيَّ
هذي الكائناتْ
يكشف الشاعر في هذا المقطع عن جوانية الحب، وقدرته الخلَّاقة على إحداث فعل التغيير؛ فهو يشعل النار في قلوب الناس ، والنَّار عنصر من عناصر الطبيعة الأربعة ؛ فهو بذلك يُجسِّد حقيقة أزليَّة الحبِّ وقدمه في أصل الكون والطبيعة ، إذ الحب طاقة خلَّاقة غيَّرتْ شكل الطبيعة من العتمة إلى الضياء ، ومن العماء إلى الإبصار، ولذلك يبقى الحبُّ سراً عصيَّاً على الكشف والمعرفة الحقيقية به ، وقد عجز الفلاسفة والعلماء على الإحاطة بدلالته يقول :
يا لغزَ أسرارٍ
تمنَّعَ أنْ يُحلَّ
وأنْ يفسّرُهُ الفلاسفةُ الذينَ أضاءَ عقلهُمُ الوجودَ
فأبصروا ما ليسَ يبصرهُ بسيطٌ
ليختم الشاعر قصيدتَهُ بتحديد ماهيَّة الحبِّ، وبتكثيف وإيجاز مُعبّرين عن عمق رؤيا وشموليَّة مُخيّلة استطاعتْ أن تلجَ كنهَ هذا السّر القادرِ على بعث الحياة في الأشياء وإعادتها من جديد في تشكيلٍ جماليٍّ أسّس الشاعر عليه لغته التي اعتمدت ثنائية الأضداد التي جاءت انعكاساً لماهيّة الحياة القائمة على تلك العلاقات الثنائية المُتضادَّة ، وقد أبدع منها صوراً ترتقي بالمُخيّلة ، وتُعمل الفكر على استبصارها من جديد ، ولو أنَّها ماثلةٌ أمام العين من غير أن يُدركها الإنسان بحسّه الذاهل عنها ، ومن هنا يبدو دور الشاعر في الكشف ، وتسليط عدسة رؤياه على ما في الكون؛ ليجلّي مُضمراته الكامنة ، ويكشف عن جماليّة أبعاده المُتخفيّة :
الحبُّ أنتَ الكونُ
أو فالكونُ أنتْ
الحبُّ أنْ تُعطي
لكي تشدو السَّماءُ
هديلَ صمتْ
الحبُّ نبضٌ يملأ الدُّنيا حياةً
ضدَّ موتْ
إنها نواميس الطبيعة القائمة على تلك الثنائيات في نظام الكون المُرتكز عليها وفق انسجام تترابط أجزاؤه بين تلك الثنائيَّات :
الذات ـــــــــــــــــــــــــــــ الكون
الصوت ـــــــــــــــــــــــــ الصمت
وأخيراً بين طرفي رحلة الحياة المُتمثّلة في :
بداية (حياة ) ـــــــــــــــــــــــــــــــ ونهاية ( موت )
يُمكننا القول في نهاية هذه المُقاربة بأنَّ الشاعر إياد خزعل قد استطاع أن يضع تعريفاً لماهيَّة الحب ببيان شعريٍّ أدرك من خلاله ماهيّة الحبَّ الذي جاء تعبيراً عن حقيقة حياة ، وفي مخالفة لسائد قارٍّ ومشترك في الذهنيّة التي غالباً ما ربطت الحب بثنائية الرجل / المرأة ، ومن هنا تبدو فطنة الشاعر في ولوجه عالم الحبّ من زاوية فرديّة لا من جانب الازدواجيّة التي سيطرت على التفكير الجمعي ، وهو بذلك يسمو بالحبّ ويرتقي بجماليّاته كونه عاطفة إنسانيَّة مُنعتقة من تأطيرها الذهني الذي جعل منها ثنائيَّة مُقتصرةً على علاقة الرجل بالمرأة .
د. وليد العرفي