حين ينسكب الحبر على البياض ويتصاعد بخور الروح ,نكون قد دخلنا عالم الكتابة ,التي لا تعدو كونها مغامرة يستجمع فيها المبدع ملكته الفكريّة مع خوابي ذاكرته ثم يعطرها بعبير ذوقه وامتدادات رؤاه…ولعل كتابة الرواية من أمتع أشكال المغامرة من العنونة نبدأ , وسمى الكاتب روايته بـ (عطر الطين ) مقدما العطر كخبر متضايف ,بعد أن أودع المبتدأ طي الكتمان ,والحديث عن رائحة التراب حين يرش بالماء مما يشي بحنين إلى البيوت الطينيّة حيث بساطة الحياة وهذا ينسجم مع تكوين الإنسان , فالطين سورة الانبثاق الأولي وأصل التكوين البشري وتشكل الرواية صرخة تنديد(بالتهريب )عالية الرتم وذلك بفضح آثاره المدمرة على الفرد والمجتمع والبيئة .وذلك من خلال التلميذ الكسول فراس الذي يعشق معلمته ويتوق لأن يصبح مهرباً ليضمن الخروج من طمي الفقر والألم والانتقال إلى الطبقة المترفة , لذا فهو لا يعير بالاً لتوجيهات ونصائح جدته ,التي تمثل القيم الاجتماعيّة السليمة والأصالة الطاهرة , معتبراً ابن عمّه المهرّب (كمال )قدوته , كمال الضائع على أرصفة الحياة والذي انفصل والداه وتركاه حجر نرد على طاولة المصير الغامض يعيش وحيداً , كما أنّ والد فراس ظل بعيداً عن أسرته بحجة العمل في لبنان , ويحقق فراس حلمه ,إذ يغدو مهرباً كبيراً لكنّ حلمه الأكبر بامتلاك معلمته “هالة” لم يتحقق التي هربت مع ابن عمه كمال فتتعدد زيجاته لمحو الحلم لكن لا فائدة , أخيراً يتزوج بـ (رنا ) التي يجد فيها شبهاً بهالة , وحين تعود هالة إلى البلدة تطلب من فراس أن يوصلها إلى حمص ,وفي الطريق تلاحقه سيارات الشرطة فيسرع لأنّه يحمل شحنة مخدرات , فتنقلب السيارة ويصاب وهالة بإصابات تقربهم من الموت . ويدخل السجن لفترة محددة وتتكشف خيوط الرواية حين يلتقي كمال وهالة ورنا والأم التي ربّت رنا ,ويطلق كمال النار على هالة لاتهامه إياها بالخيانة ومحاولة إغراقه في البحر فتموت هالة ويموت معها ابن فراس بسبب الإصابة ويعتبر فراس نفسه مسؤولاً عما حدث فيعترف بأنّه كان وراء موت والد رنا لأنّه رفض طلبه بالزواج منها ,كما أنّه حاول إغراق كمال للفوز بهالة ,ويصل فراس إلى طريق مسدود ,فينتحر مسموماً.
تنضوي المرويّة(الرواية) تحت عباءة الواقعيّة الانتقاديّة وتتمطى على سرير السيرة الذاتيّة بفاعليّة (فراس ) الشخصيّة الرئيسيّة والتي اتّخذت هيئة الراوي.
ولعل الكاتب قد يكون الوحيد الذي يؤثث لطبيعة بيئة الجغرافيّة الحدوديّة ليجعل منها بطلاً موازياً فاعلاً في عالم روائي, كما أبدع حنا مينة حين جعل من البيئة الساحليّة عالماً روائيّاً.والروائي إبراهيم الكوني الذي أنبت من رمال الصحراء وقحطها عالماً يضج بالحياة .. والكاتب منحاز لتراب قريته البكر مسكون بتفاصيل جغرافيتها المتمادية في السحر وهو حين يوظّف الجغرافية في بناء متونه الروائيّة يطمح لأن يضع البقعة المتاخمة للحدود في دائرة الضوء , لذا فقد حضر المكان كمنظور خلفي وكمحيط لعالمه الروائي (وصف دقيق للبيئة الريفيّة ,الطبيعة ,البيوت ,الأهالي , العادات , القيم ) مركزاً على التطور الذي شهدته المنطقة . حيث تؤكّد الرواية على زمكانيّة الإنسان .(حضور جسدي محسوس في المكان ووعي في الروح متأثر بالمكان والزمان ) وكي يقنعنا الكاتب بواقعيّة روايته يعمد إلى ذكر الكثير من الأماكن كشاهد عيان (حمص ,دمشق ,جسر قمار ,العريضة ,جبال عكار ,قلعة الحصن ,….الخ)) ولعل إصرار فراس على طموحه في أن يصبح مهرباً مأخوذ من واقع البيئة ,حيث يجني المهرّب مالاً يحسد عليه , وقد أجاد الكاتب رسم بعض جوانب هذه الشخصيّة التي تعتلي صهوة المغامرة والمخاطر وتبحر على شراع المجهول وهي تدرك أنّها ستغدو في خبر كان عند أوّل منعطف للحقيقة .فحياته مفتوحة على كلّ الاحتمالات ودربه مليئة بكل أنواع المفاجآت , وإذا كانت الرواية تشير إلى نظرة غير صحيحة من تلميذ إلى معلمته وعشقه لها مخالفة بذلك العلاقة الحقيقيّة بين المعلمة كأم والتلميذ كإبن ولا مجال للعشق,فتعلّق الطفل فراس بمعلمته (وإن قارب سن البلوغ ) على هذا النحو هو حالة شاذة.
وقد ترك الراوي بعض خيوط روايته متفلتة وفيها من القطب المخفيّة ما فيها عن سابق قصد لتكون عامل مفاجأة للقارئ حين ربطها بسياق الأحداث ,ولعل شيئاً من الوهن بدا في البناء الدرامي ولم يتمكن الكاتب من إدخال الهدف الذهبي بحرفيّة فتبدّى ذلك في حيرة الكاتب في كيفية الوصول إلى النهاية المنطقيّة والمناسبة مما دفعه لجعل كمال يقتل هالة والطفل كما دفع فراس للانتحار بالسم حزناً على هالة وابنه وندماً وتكفيراً لفعلته ,وكي يعطي الكاتب مزيداً من التشويق جعل فراس قبل ذلك يرغب بالانتحار وهالة إلى جانبه في السيارة .وهذا ما يحيل فراس إلى شخصيّة مرضيّة مستهترة بالحياة .. والهدف الإرشادي واضح في المرويّة من خلال إدانة التهريب وتبيان أثره السلبي على الفرد والمجتمع والبيئة إذ انتهى كمال إلى السجن وفراس إلى الانتحار بعد حياة خالية من الاستقرار (زواج وطلاق ثلاث مرات )كما أن حفر الآبار من قبل المهربين الميسورين جفف الينابيع فماتت الأشجار ودخلت المنطقة في حالة من التصحر (يذكرنا برواية الأشجار واغتيال مرزوق لعبد الرحمن منيف (حيث قطعت الأشجار وزرع القطن بدلا عنها .فتصحّرت البلاد) هذا وقد أسقط الكاتب على رنا الكثير من أفكاره وأمنياته , التي لا تناسب شخصيّتها), وتأخذ الرواية مصيرها الدرامي من خلال تعلق فراس بمعلمته هالة وممارسة التهريب لتحقيق حلمه فراس المستسلم لعشق يدق في جرن القلب ويعزف على أوتار المشاعر سيمفونيّة الوله فقد ظلت هالة لديه أملاً معلقاً على مشجب الانتظار وأضحى مصلوباً على خشبة العشق وكأنّها الجسر الوحيد المتبقي في أزمنة التعب .. فركعت روحه عند بوابة فتنة ضوئها وتحت لحاء الوقت ظلّ عشقه لها طائر فينيق لم يقو رماد الزمن دفنه… لقد أضاع فراس بوصلة دربه حين غدت هالة بوصلة قلبه منذ يفاعته وغدا يعاني من صراع نفسي سببه متلازمة العشق,فأخذته عزة حلمه الطفولي نحو فراغ الفجيعة , ومن خلال زجاج محنته المغبّش اختار النهاية المأساوية .
لقد اختار نكبة الحب المحرّم والفرح الكسيح حين ظلّت هالة مطمح نفسه .بعد أن تزوجت بابن عمّه كمال ,وعندما أصبح فراس مهرباً كبيراً غدا أمام ظرفيّة مغايرة . ولم تستطع رنا وقبلها مطلقاته الثلاث من ملء حقائب روحه فحرمانه من هالة تركه في خواء فقادته خيول عشقه إلى مضمار مميت .
و للغة الكاتب السرديّة حضور ثري بكل ألوان البهاء وكثيراً ما تقترب من الشعرية الساحرة إذ تعتمد الصور الاستعارية , ولعلّه اعتمدها جزرة غواية في جذب القارئ.
ويرد في الرواية ما يشي بثقافة الكاتب العميقة (استسلمت كصبي دافنشي أمام عصفور العنب , مثلما خطف زيوس أوروبا على أحد الحيتان) هذا وقد أسقط لغته الشعرية على لسان فراس المهرب مما بدا مجافياً للواقع ….
محمد الرستم