الصناعات اليدوية القديمة بحمص في طريقها إلى الاندثار .. المطالبـة بإنشـاء سـوق للمهـن اليدويـة للمحافظـة علـى التــراث
لا أحد منا يعرف بدايات الحرف اليدوية التقليدية التي دعت لها حاجات المجتمعات فأصبحت تلك الحرف أحد ثوابت تراثنا العريق وكنز شعوبه التي لا يمكن أن ترحل من الذاكرة مهما مرت السنون.. وما شموخ الماضي إلا إضاءة لحكاية الحاضر اختصر خطواتها الابتكارية الأولى الحرفي القديم وبداية خطوة الألف ميل كما هو معلوم خطوة.. لعل تحول الفن الحرفي لمعادلة ثنائية جمعت ما هو قديم يضج بمعالم أيام زمان والحاضر الذي استمد من تقنية ومهارات عالية.
وتتمـــيز الحرف والصناعات اليدوية بأنها تمـــثل تعبيراً حقيقياً عن التقاليد الحية للإنســـان، فهي تعتمد على الأســـس الثلاثة للتنمية المستديمة، التكييف والتجديد والإبداع إلا أن الحرفيين يفتقدون الإمـــكانات التي تمكنــهم من تطــــوير أساليب إنتـــاجهم وترويجها.
إن الصناعات الحرفية اليدوية مرآة تعكس جانباً من جوانب الهوية الوطنية للبلد، وتعتبر تراثاً وطنياً تحافظ عليه معظم الدول كجزء من هويتها وأصالة شعوبها ورمزاً لعراقتها وحضارتها وتطورها .
ولقد كانت الصناعات اليدوية حتى ماضٍ قريب تفي بكل متطلبات ومستلزمات المستهلك…
تبين من بعض الدراسات أن قطاع الحرف والصناعات اليدوية يساهم بدور إيجابي وفعال في التنمية السياحية ويعود ذلك إلى أسباب تشجيع الزوار والسياح على شراء المنتجات التقليدية والاحتفاظ بها كتذكار أو توزيعها كهدايا ، إن القيمة التراثية للحرف أمر معترف به في المناطق السياحية في كافة دول العالم، والعائد المادي هو العامل الأكثر أهمية في بقاء هذه الحرف حيث يلاحظ بصورة عامة أن أي سائح (بمفرده أو ضمن مجموعة)عند زيارته لأي دولة تكمن رغباته في اقتناء المنتجات الحرفية من تلك الدولة، وتتطلب الأهمية السياحية عملية تشجيع ودعم الصناعات اليدوية حتى يمكن توفير منتجات حرفية ذات نوعيات جيدة وبمواصفات ملائمة سواء فيما يتعلق بالحجم أو الشكل لذلك لابد من مضاعفة الجهد والتصدي للمصاعب والعقبات التي تواجه الحرفي وهذا الإجراء يتطلب الجهد والتنسيق بين كثير من الجهات ذات الاهتمام بالحرف، إضافة إلى ضرورة تنمية مستوى الوعي لدى المجتمع بأهمية الحرف وإيجاد أسواق ومنتجات جديدة ، مع تحسين أساليب العرض والتقديم وطريقة التغليف لبعض المنتجات الحرفية ، على أن يصاحب ذلك تميز في الجودة والنوعية للمنتجات الحرفية وقد يلزم توفير فرص لتدريب العاملين في مجال الحرف لذلك لابد من دعم كافة الوسائل المتعلقة بالحرف والصناعات اليدوية، إضافة إلى تشجيع ودعم المساهمة النسائية في قطاع الحرف اليدوية وزيادة أعداد المنتجين والبائعين والعمل أيضاً على تطوير الورش والأسواق الحرفية للوصول في النهاية إلى حرف وصناعات جيده ومتطورة تسهم بشكل جيد في النهوض بالصناعات اليدوية والاستفادة منها سياحياً في جميع المناطق .
في طريقها للزوال
إذا أردنا الحديث عن الصناعات الحرفية التراثية في حمص فإننا نجد أن المدينة اشتهرت بالعديد من هذه الصناعات كالفخاريات والنحاسيات بأنواعها وصناعة الذهب والفضيات وصناعة الزجاج والعبي والجلابيات والألبسة التراثية وصناعة خبز التنور وغيرها وبعض هذه الصناعات اندثر كحرفة النول العربي وصناعة البسط والسجاد وبعضها في طريقه الى الزوال والاندثار لاسباب عدة.
إضافة لذلك هناك العديد من الأسواق التي تدل أسماؤها على هذه المهن كسوق الحدادين وسوق النحاسين وسوق العطارين ,النجارين وسوق الذهب وسوق الفرواتية وسوق الخياطين والعبي وسوق الزيت لكن للأسف فعلت الحرب فعلها في تلك الأسواق التي تعرضت للنهب والسرقة والدمار على أيدي المجموعات الإرهابية المسلحة , مما أدى إلى تلاشي ملامح تلك الأسواق التي كانت في حمص القديمة ولم يبق إلا عدد قليل من الصناع معظمهم هاجر ومنهم من ترك المهنة أو اكتفى بمحل صغير في أحد الأحياء حفاظا منه على مهنته التي توارثها من الآباء والأجداد ومما يدعو للأسف انه لا توجد في حمص حتى الآن سوق لعرض الإبداعات الحرفية أسوة بسوق المهن اليدوية في دمشق وحلب..
ومن يستمع إلى هموم من بقي من أصحاب المهن الذين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة في بعض الأحياء يشعر بالحزن على ما آلت إليه هذه الصناعات وأصحابها.. وهم مستغربون من حالة الإهمال الذي تعاني منه تلك المهن من قبل الجهات المعنية …
البحث عن مهن أخرى
أحد الصناع سألناه عن هموم وظروف هذه الصناعة فقال: النحاسيات صناعة قديمة وتزخر متاحفنا بتحف أثرية في مختلف الأماكن , وأعمل بهذه المهنة منذ عشرات السنين وورثتها عن والدي الذي علمني أصولها جيداً .
وأضاف قائلاً : هذه المهنة بدأت بالتراجع منذ زمن نتيجة الارتفاع الكبير بأسعارها مما اضطر الكثير ممن يعملون بمهنة النحاسيات للتوقف عن العمل ,والبحث عن مهن أخرى يستطيعون من خلالها تدبر أمورهم المعيشية , وحاليا في حمص عدد الصناع في هذه المهنة قليل ,وهي في طريقها إلى الزوال بسبب عدم اهتمام الجهات المعنية بها وغياب الدعم للصناعات القديمة إضافة لعدم وجود سوق خاص بهذه المهن التراثية ..
وعن الصعوبات التي تواجه عملهم قال : مع أن عددنا قليل مازلنا ندفع الرسوم والضرائب المفروضة علينا , ناهيك عن تراجع المبيعات وعزوف العديد من المواطنين عن اقتناء الأدوات النحاسية مما يفقدنا الحافز للحفاظ عليها لذلك لم أعلم هذه المهنة لولدي لأن مردودها قليل وخاصة في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها
مهنة متوارثة
وأضاف : النحاسيات من المهن التي تلفت انتباه السائحين وكان سوق النحاسين يعج بهم , وكانوا يحرصون على اقتناء تذكار من هذا السوق لكن الوضع حالياً مختلف تماماً خاصة خلال سنوات الحرب …
مشيرا إلى أنها مهنة متوارثة ورغم قلة العمل وتوجه الناس لاقتناء الأدوات الحديثة من الألمنيوم و التيفال والستانلستيل الا أنه لم يفكر بترك هذه المهنة لأنه لا يعرف غيرها .., وتمنى اهتمام الجهات المعنية بهذه المهن والمحافظة عليها كونها تراثاً حقيقياً من الصعب إيجاد بديل له ..
أحد الحدادين «حدادة عربية» أوضح أنه يعمل بهذه المهنة الصعبة منذ 30 عاما وقد تعلمها من أبيه , وأشار إلى أن هذه المهنة بدأت بالتراجع وفي طريقها للزوال بسبب دخول الآلات الحديثة , وعدم تقديم الجهات المعنية أي دعم للصناعات القديمة لتستمر .. وتمنى وجود سوق خاص بالصناعات التقليدية ..
استمرار لحرف قديمة
عبد المطلب الضاهر من اتحاد الجمعيات الحرفية قال : معظم الحرف والمهن اليوم هي استمرار لمهن وحرف قديمة ولكن دخلت إليها الآلات الحديثة واليوم تصنع الفرش من الاسفنج الصناعي وكذلك أغطية النوم من مادة الديكرون نوع من أنواع النايلون بدل مادتي الصوف والقطن حيث كان النداف أوالقطان يقوم بتنعيم القطن أي ندفه عبر عصا طويلة في رأسها قطعة معدنية تساعد على تنعيم وتنظيف القطن من المواد العالقة به كالبذور الشوكية ويصنع اللحف والفرش منها.
كما اندثرت مهنة صناعة المكانس بأنواعها الخشنة من القش والناعمة من الريش الموجود في قصب الزل وحلت المكانس الكهربائية والنايلون محلها اليوم ..
وأوضح أن مهنة الحداد دخلت عليها الزخارف فيما برزت مهنة نجارة الألمنيوم الى جانب نجارة الخشب الذي لا يزال يشكل أحد أهم مكونات البيوت من نوافذ وأبواب وزخارف لافتاً إلى أن مهنة الخياطة بأنواعها العربي والأزياء النسائية السائدة في الماضي اندثرت ولم يعد لها أثر اليوم إلا في حدود ضيقة جداً لأن الآلات الحديثة استطاعت تلبية احتياجات الناس المتزايدة من مختلف الموديلات وحتى اللباس العربي منها.
ونوه بأنه في الريف مازال القرويون ما زالوا منتجين لمختلف الصناعات الريفية من توالف البيئة كالقش الذي استخدم في صناعة العديد من الأطباق مختلفة الأشكال والأحجام والرسوم والقفف وكذلك صناعة الخبز العربي بالتنور ..
الحرفة فرصة عمل
وأشار إلى أن سوق المهن تأثر بالحرب التي تمر بها سورية فيما يتعلق بأسواق التصريف الخارجية إلا أن السوريين لا يزالون أوفياء لماضيهم ولتراث أجدادهم وهم يأتون لانتقاء الهدايا كتذكارات عن الأصالة والحضارة يحملونها معهم أينما ذهبوا كما يحرصون على تزيين بيوتهم بها” ..
موضحا أنه بسبب الحرب على سورية تأثر الحرفيون ومنتجاتهم وعملهم بشكل كبير خاصة مع غياب السياح عن حمص وما تعرض له الحرفيون من تهجير وتدمير منشآتهم.. ورغم ذلك واصل الكثير من أصحاب المهن التراثية العمل في حرفهم التي توارثوها «أباً عن جد»، حيث جذبت منتجاتهم كل من شاهدها في أصقاع العالم عبر مختلف المعارض و الأسواق..
الحرفيون كشريحة عاملة وواسعة لهم الدور الكبير في إعادة بناء سورية فكل حرفة هي فرصة عمل ووجود مشروعات استثمارية وصناعية كبيرة لا يكفي للاقتصاد الوطني بل يتطلب أعمالاً حرفية فهناك علاقة بين تطور الصناعات والمشاريع الاستثمارية بمختلف أشكالها وبين تطور ونهوض الحرف اليدوية.
وقد أثبتت الحرف السورية قابليتها للتطور والنمو فهي لم تكن حالة عارضة في حياة الناس، بل على العكس شكلت أساس الحالة الاقتصادية للبلاد فالإنتاج في الصناعات اليدوية يعتمد بشكل رئيسي على الأفراد، وغالباً فإن النسبة بين رأس المال والعمالة منخفضة مقارنة مع الصناعات غير اليدوية، لذا فإن هذا القطاع برهن خلال الحرب أنه مصدر قوي لتدوير عجلة الاقتصاد عبر إنتاجه الذي يعتمد على استخدام الموارد المحلية..
وأشار إلى أن انخفاض عدد الحرفيين في المحافظة و تأثر كل الحرف الخدمية والإنتاجية بفعل الإرهاب والحصار الاقتصادي الجائر على بلدنا سواء من حيث الإنتاج أو من حيث خروج المناطق المهنية والصناعية من الخدمة جعل الحرفيين يمارسون مهنهم ضمن الأحياء السكنية.
وفيما يخص الحرف اليدوية والتراثية فيكاد وجودها ينعدم حالياً باستثناء صناعة الحلويات الحمصية التقليدية كالحلاوة على اختلاف أنواعها مشيراً إلى أن هذه الحرف لم يكن لها سوقٌ خاصٌ يوماً ما وكان حرفيوها يتواجدون ضمن الأسواق القديمة التراثية التي لم تؤهل بعد.
وقد عرفت حمص بحرف تقليدية مثل النول اليدوي، الحفر على الخشب، التطريز، الفخاريات، النحاسيات الزجاج المعشق، أما حالياً فلا يلحظ أي وجود لها.
تاريخ عريق
ويذكر أحد المؤرخين أن معظم الأسر العاملة في عدد من المهن اتخذت اسما لها أرخ لتاريخ العائلة كما أن العديد من تلك المهن التي تربت عليها أجيال وكانت المورد الاقتصادي للكثير من العائلات الحمصية اندثرت وبالمقابل فان مهناً أخرى حظيت اليوم بالانتشار الواسع وتطورت أساليب العمل فيها نظراً للتقدم الصناعي والتكنولوجي الذي شمل مختلف مناحي الحياة.
مشيرا إلى أن مهنة الحفار مهنة اختفت كلياً , كما اندثرت حرفة الحجار أيضاً الذي يقوم بقص وإعداد الأحجار البازلتية السوداء التي تشتهر بها حمص لاستخدامها في بناء البيوت والمساجد إضافة إلى حرفة تعشيق الزجاج حيث دلت الآثار في تدمر على أن صناعة الزجاج وتعشيقه أي عملية تداخل الزجاج مع بعضه أو مع معادن أخرى كالنحاس صناعة حمصية قديمة.
و العديد من المهن والحرف اليدوية معرضة للاندثار اليوم اذا لم تلق الدعم الكافي من قبل الجهات المعنية ومنها صناعة الفخار والأواني الفخارية , بالإضافة إلى مهنة خياطة «العبي», وكذلك مهنة صناعة النحاسيات الشرقية التراثية وصناعة الآلات الموسيقية كالعود ..
أخيرا ً
إن أروع ما قدمته هذه المهن للإنسان شعوره بالعطاء وممارسة كل فرد لدوره في الحياة بالإضافة إلى المردود المادي له ولعائلته .