اللفظ جسم روحه المعنى بشكل عام ، أما في الشعر فالألفاظ رقص معبدي جميل ، يجلو الأبصار وموسيقا تطرب الأسماع ، وتغذي الروح ، ومعنى راق يحاكي الطبيعة ، وينام على أبواب القوافي ، ويعبر جسر التنهدات .
في ديوان ( معنى على التل ) للشاعر ( صقر عليشي ) قصيدة بعنوان ( مشى على الغيم ) وهي مهداة إلى محمود درويش ، ومنارة فلسطين التي لا تنطفئ وأحد المبشرين بميلاد فجر التحرير والعودة ولكنه رحل ولم يشهد هذه الولادة المتعسرة والتي مازالت منذ أكثر من ستين عاماً في مرحلة المخاض هذه القصيدة تفيض بالحيوية والإشراق والتدفق والإمتاع للذهن ، والإشباع للذوق ، والإرهاف للحس إنها ريح قوية تطفئ الشموع ، ولكنها تؤجج النار وتجمع قراضة الذهب أساور في معصم الشعب المناضل ضد العدو الصهيوني .
يقول الشاعر في قصيدته : نحن اختلفنا حول تفسير الغياب /فقال قوم إنه قصد السماء ليشرح المأساة / شوهد يستقل قصيدة صغرى /من الوزن الخفيف / علت به فوق السحاب / البعض أكد أنه حمل الوثائق تحت إبطيه / الخرائط والصور / والبعض قال مضى ليلقي نظرة عليا / يتابع من هناك / على رصيف الغيب مشيته / كما أوصى طبيب القلب / ثم معرجاً سيرى تخوم المنتهى / ومكان إنزال السور /.
في المقطع خيال يولد الحقائق النفسية المجردة لتكون واقعاً محسوساً متجانساً ، يسير بعكس علامات طريق الخنوع والاستسلام ، ليقول : إن الشيء الجميل حقاً لافائدة منه ، وكل ماهو نافع قبيح ، والجمل المتوسطة والقصيرة ، ذابت لتصنع هذا التمثال التذكاري للشاعر ( محمود درويش ) بعد قيامته من قبور الذكريات .
ويتابع الشاعر ( صقر عليشي ) تصوير ما في المجتمع الفلسطيني من ظلم صارخ عنه في قصيدته في حين لا يستطيع القضاء عليه خارجها : مر الكلام بلا لون فلوّنه /
والريح مر بلاعطر فحمّله / ومر الضوء لجلاجاً فأثبته / ومر بالغيّ بنياناً فزلزله / واحتاج حزن لإيقاع فنغمه / واحتاج صمت لتأويل فأوله/ واحتاج طير إلى أفق فناوله/ دنا ومسح عن خد الحصاة قذى/ وحين طال شموخ النخل طاوله /.
اللغة في هذا المقطع ذات طابع جمالي لافت ، وليست نفعية مباشرة ، توظف الصورة الشعرية الغائبة بلفظ يدل عليها في حين غيابها ، فتثير الدهشة والتعجب والتوتر ، فالشاعر يخاطب ( محمود درويش ) بقوله : القمح في بيدرك كثير ولكنك لم تذق إلا كسرة يابسة ، أشعلوا من روحك فتيلاً لينير طريقهم ، فكان تاريخهم أسود دامياً ، بينما تاريخك ممكن ومحتمل .
يتابع الشاعر ( صقر عليشي ) خطابه لـ( محمود درويش ) قدت الأساطير نحو الحياة / وأسكنتها الشارع الجانبي / وأسريت في الواقعي دماء الخيال / وأعطيت أغنية للجبال علت / خذ جبال الخليل مثال / وأشفقت لم تدع النسوة الذاهلات يقطفن أيديهن أمام جلال الجمال / تألق الجانب الغربي في لغة / لما أضاء لها في شرقه الوله / في دربه نحو الكمال / يبدل الشعر الإقامة والثياب / هنا ارتدى ريش الهنود الحمر / ألف من عويل الذئب أغنية المصير /.
في هذا المقطع إيقاع ( وحدة النغمة ) التي تتكرر برتابة فنية ماهرة ، تغوص في أوصال النفس البشرية لأنها تلتزم بقضايا الوطن ، وما يعانيه من آلام ، وما يبنيه من آمال ، وتنير الكهوف المظلمة بشمس الوعي .
وتتابع القصيدة أنفاسها مجلجلة : صمود السرو نحو جماله العالي يدل عليك / لؤلؤة النباهة حين يخرجها لنا الغواص من أعماق فكرته تدل عليك / ليلى حين أجهدت العبارة كي توضح ليل عينيها تدل عليك / ورصعت السماء بفضة الذكرى ، وأجريت الرخام مع النشيد لصنع أبهة تدل عليك / جلوسك فوق مصطبة الخلود مدلياً رجليك يدل عليك /
يلتقط الشاعر رموزاً تتقدم في صورة موجات تحدو في جو من المفاجآت ، فيتخذ من شخصية ( محمود درويش ) معادلاً موضوعياً لشجر اللوز والبرتقال والحرية .
نزيه شاهين ضاحي