قصة قصيرة…امرأة في السّبعين.. في الثّلاثين!

النّاظر إلى عينيها، ووجهها الحِنطيّ النّضير، يحسبها بالثلاثين، أو الأربعين، وحين يسألها أحدهم عن عمرها الحقيقي، كانت تظلّل سحنتها الوديعة، بابتسامةٍ كزهرةٍ نديّة، قائلة بحسم: «أنا الآن بالخامسة والسّبعين، اللهمَّ لا حسَد».. يا سبحان الله، امرأة سبعينيّة، بكلّ همّةٍ باصِمة، تستقبل الحياة بالسادسة صباحاً، تمشي بتؤدةٍ مع الماشِين، تركض مع الرّاكضين، بتلك الدّروب، المُخصّصة لرياضات الصباح، انطلاقاً من قناعتها الرّاسخة بـ «أنَّ العقل السّليم، في الجسم السّليم»؛ وهي تأملُ في أنْ يكون الناس من الجنسين، بعقولٍ واعية، وأبدانٍ مُعَافاة! مرّة تجرّأ أحد الرّياضيين، سألها:
ما سرّ هذه الحيوية، وهذا الوجه المُشرِق، يا خالة؟ ما شاء الله، يُهيَّأ أنك بالثلاثين، أو الأربعين، الله يعطيكِ الصحّة، والعمرَ المديد..
نظرت إليه نظرة فيها عبقٌ منْ فستق الرّوح، وهي تسند ظهرها لِجذع شجرة رياضيّة خضراء، تشنّف أذنيها لمهرجان البلابل والعصافير، وهي تشدو، أو تصوّت، تمارس رياضة الطيران، أو الاندساس طيَّ أوراق الشّجر، تؤدي حركاتٍ بهلوانية، مُعلنة بزقزقاتها الماتِعة، مباركتها لكلِّ رياضيِّ، بهذه المعمورة المُتراحِبَة..
ما دمتَ سألتني يا ولدي عنْ سرِّ شبابي، ومبلغ حيويّتي، الجوابَ: منذ نعومة أظفاري، وأنا أمارس رياضة المشي والجري، هما فرحُ حياتي، وإكسِير سعادتي.. بِمرحلة الشباب، اشتركت بمسابقات كثيرة، أحرزت عدّة ميداليات ذهبيّة..
أخذتْ نَفَسَاً وأردفَت: لا أكتمكَ سرّاً، فأنا بهذه السنّ، لا أستطيع أنْ أبدأ يومي، إلّا بعد أنْ آخذ وجبتي الصباحية من «مائدة المشي والجري» كالمعتاد، بل لا أستمتع بنداوةِ اليوم، وعذوبته، بدون القيام بهذه الرياضة المحبّبة، ومعها وإلى جانبها عددٌ من الرّياضات الأخرى المُفيدة..
مرّة أخرى، تتوقّف عن الكلام، تتناول زجاجة الماء من حقيبة الظهر، ترتشفُ شيئاً منها، تقول:
حين يأخذ الدّم بالتدفّق، كنهرٍ مُنْدَاح، وتتسارع دقّات القلب، ويتصبّب عرقٌ مالحٌ، كان مُنكتماً، حينها أشعر بالفرح يفيض من قلبي، ساكباً خيوطَه المطريّة في كياني بِرُمّته! من بعدُ، أعود للمنزل، آخذ حمّاماً منعشاً، أحسّ عقبه، كأنّ السعادة تحيط بي كجزيرة.. ثمّ لا تنسَ يا ولدي، بأنّي أحبّ قراءة القصص والروايات، العربية وسواها، لأنّي مُقتنعة، أنّ للعقل رياضتَه الخاصّة، وتدريباتِه الضروريّة!
سألها رياضيٌّ آخر، وكان ينصت للمحاورة باهتمام: وأولادك يا عمّتي، هل يمارسون الرّياضة مثلك؟
أولادي مثلي يا ولدي، هم شباب في مثل أعماركم وأزيد، لكن و للأسفٍ، أنا لا أراهم إلا مرّة بالسنة، ثلاثتهم يقيمون مع زوجاتهم وأولادهم ببلاد الغربة.. أنا حزينة بسبب غربتهم عنّي، أرى أنّ الرياضة تخفّف عنْ قلبي بعض مواجِعِه، لذا أمارسُها دون انقطاع، وبأوقاتها المُحدّدة..
نبسَ رياضيٌّ ثالث: وزوجك، هل هو مثلك، يمارس الرّياضة دون انقطاع؟
زوجي توفي منذ سنوات.. كنت أنصحه – رحمه الله – بضرورة ممارسة الرّياضة، أقلّها «المشي»، خوفاً من جلطة قلبيّة، أو خثرة مُعادِية، أو تصلّب بالشرايين، أو ارتفاع مفاجىء بالضّغط، لكنه كان يستهزىء بي: «أنتِ مجنونة يا امرأة، كيف يترك إنسان عاقل الدفءَ، وينطلق باكراً، لممارسة طقوس جنونه، ورياضاته السَّخيفة؟ كفّي عن هذا الجنون، عُودِي للنّوم».. كان الباب الخارجي، الذي أطبقُه خلفي، هو الذي يحول بيني وبين سماع كلماته الرَّمادية، التي كانت تتبقّع على جدران المنزل، أو تتشظّى عند أدْرَاجِه.. فقد كنت مصمّمة، على ممارسة الرياضة!
سألها رابعٌ: كيف ارتحل زوجك المرحوم عنْ هذه الفانية؟
بعدما أنجبتُ منه ثلاثة أبناء، دَاهمَهَ مرضٌ عُضال.. حين أسعفناه، جاء جواب الأطبّاء واحداً: «جلطة دماغيّة، بسبب قلّة الحركة والنّشاط، وانعدام الرّياضة، وكثرة التّدخين والطعام الدّسِم، علينا أنْ نبذل قصارى جهدنا لإنقاذه»! بالمستشفى بقي أياماً معدودة، ثم ما لبث أنْ فارقَ الحياة!
أردفَتْ بغصّةٍ بادِية: بغرفةٍ جانبيّة، سمعت طبيباً، يقول لزميله: «لم يكن المرحوم يمارسُ أيَّ نوع من أنواع الرياضة، إلّا رياضة النّوم ، عرَفت هذا من التّشخيص، ومنْ طبيعة جسده الخامِل»!!
كانت المرأة السّبعينيّة – الثّلاثينيّة، تروي قصّة زوجها الرّاحل، وهي لا تزال تسند ظهرها إلى جذع شجرة خضراء، بعينيها يتلامعُ دمْعٌ رقراق، حائر، إذ جعلتها أسئلة السائلين تتذكّر الماضي، بِحنينٍ طاغٍ، وألمٍ مُمِضّ، بل كانت بروحٍ رياضيّة، تقول لسائلها الخامس: «ذكّرتني الطعنَ وكنتُ ناسِياً»! كان صوتها هنا مُتأسِّياً، بدا على وجهها الأحمر النّضِر، بعضُ التحوّل.. أخيراً رآها الجميع، وهي تمشي الهُوَينَى، باتجاه الباب الخارجي «للمسلك الرّياضي الصحّي»، بعدما قالت للجميع: غداً نلتقي على السّادسة صباحاً، تصبحون على أملٍ وخيرٍ ورِياضة»…
وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار