تصادف أن أراها أكثر من مرة في « عرس الشهداء» في مكان من وطننا الغالي ، يوم تودع فيه الأم ابنها الذي قدم روحه فداء للوطن ،وللمرة الأولى والأخيرة لا تنتظر منه وعداً بالعودة … نبرتها لم تفارق مخيلتي .. كيف لها -وهي المرأة الأم – أن تكون بهذه القوة ورباطة الجأش ؟! كانت تمسك بيد أم الشهيد وتقول لها : ارفعي رأسك عالياً .. زغردي له إنه يوم عرسه الأجمل ..
كنت أقول في نفسي : من تكتوي يداه بالنيران ليس كمن يضعهما في الماء ، والجرح لايؤلم إلا صاحبه ، ولكن يبدو أنني أخطأت في نظرتي لها ويوم الحقيقة كان يوم استشهاد ابنها البكر .. لقد كانت أقوى من ذي قبل .. رفضت أن يعزيها أحد – فالشهادة في سبيل الوطن عرس كبير – بل طلبت من الجميع تهنئة من القلب فهي أم الشهيد .
أجل إنها أم من آلاف الأمهات السوريات اللواتي قدمن مزيجاً غريباً من المشاعر المتناقضة .. عيون ملأها الحزن بعد أن جفت الدموع مع ابتسامة فخر واعتزاز .. زغرودة مبحوحة تشق ستار الألم والحزن على الفراق .. كيف لا ؟ لقد فقدت فلذة كبدها ، ولدها ، ولكنه قدم روحه ودمه في محراب الشهادة « قيمة القيم وذمة الذمم » .
أجل ..إنها الأم السورية التي حيرت العالم عندما ظهرت على شاشات التلفزة .. نعش الشهيد لم يوار الثرى ودمه مازال حاراً وهي تقول : « كلنا للوطن .. كلنا مشاريع شهادة .. الوطن غالي وبيستاهل» .
ويقولون لنا : نحن نأخذ العبر من أجدادنا ولكن أعتقد أنهم لو عادوا إلينا اليوم سيأخذون العبر .. فأين أنت من الأم السورية يا خنساء العرب ؟ أنت التي عشت عصر الجاهلية ، يا من أبكيت العالم لسنوات طويلة على مقتل أخيك غدراً ، وصبرت وحمدت ربك وتجلدت حين استشهد أبناؤك الأربعة وحينها قلت كلمتك المشهورة : « الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم « . أعتقد لو أنك معنا اليوم ستقفين مذهولة مما سترينه من الأمهات السوريات ..
أجل إنها الأم السورية التي قلبت المعادلات وحولت الأسطورة واقعاً ..لابل سطرت للعالم أجمل أسطورة ستحكيها الأجيال طويلاً .
منار الناعمة
المزيد...