نتناول في هذه الإضاءة موضوعة رثاء الذات ليس بوصفه أحد الأغراض الشعرية المعروفة ، بل بكونه تعبيراً عن حالة وجدانية , وموقف حياتي نادر ومؤثر في آن معاً .
مفهوم غرض الرثاء : لغةً واصطلاحاً
أوّلاً _ الرثاء لغة : مدح الميت .
قيل : ( إن مدحه بعد موته قيل رثاه يرثيه ترثيةً ورثيت الميّت رثياً ورثاءَ ومرثاة ومرثية ورثيته : مدحته بعد الموت وبكيته , ورثوت الميّت أيضاً : إذا بكيته وعددت محاسنه , وكذلك إذا نظمت فيه شعراً……..) .
لقد ارتبط الرثاء بالموت ، وإحساس الشاعر بدنو الأجل تلك الحقيقة التي يقف الإنسان أمامها عاجزاً ، وقد تملكته مشاعر الرهبة والقلق إزاء الحدث الذي يجد نفسه فيه ضعيفا ً مهما بلغ من القوة والسلطة ، ويمثل الرثاء تلك اللحظة التي يتجرد فيها الإنسان من كل شيء سوى حقيقة ضعفه البشري ، كما يكون المحطة الأخيرة ، واللحظة الفاصلة بين الحياة والموت ، لتكون القصيدة جسر الفصل بين حياة تُودّع وموت يُستقبل وهي ما تحتم على الإنسان أن يلتزم بالصدق والمصارحة ، وبذلك يكون غرض الرثاء من أصدق أغراض الشعر.
ومن هنا يتخذ رثاء السلاطين أنفسهم بعديه : القيمي والاجتماعي في تسليط الضوء على حقيقة الوجود العربي في تلك الحقبة ، ودائرة الصراع التي كانت تتسع ما أدى إلى زوال الحكم العربي في تلك البلاد .
تطبيق عملي
نتناول في هذه الإضاءة مرثية أبي عبد الله الصغير نفسه من خلال قصيدته المعنونة بــ (الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى مولى فاس ) التي أراد من خلالها أن يوجه رسالة يطلب فيها اللجوء إلى سلطان فاس ، فطلب من وزيره أن يكتب له قصيدة يشرح فيها موقفه ، لقبول وفادته لاجئاً إليه ، فأسهب في هذه القصيدة / الرسالة التي بلغ عدد أبياتها مئة وتسعة وعشرين (129) بيتاً ، وهي تقوم على بنية التوازي التي تمثلت على المستوى الخارجي من حيث أسلوب الكتابة مثلما تبدى التوازي في بنيتها الداخلية على مستوى اللغة ، فمن حيث الغرض توزعت مضامينها وفق غرضين أساسيين هما في الحقيقة يُكمّلان بعضهما ، فهي رسالة استعطاف ، ورثاء حكم زائل من جهة ، ومديح لـ سلطان فاس من جهة أخرى .
تتدرَّج ُالقصيدة / الرسالة وفق ثنائية التوازي منذ توجيه الأمر بكتابتها التي كانت بطلب من السلطان أبي عبد الله الصغير إلى كاتبه ووزيره العقيلي ، إذ لم يكن أبو عبد الله يقرض الشعر
كما يظهر التوازي على المستوى الخارجي للرسالة أنها تتوزع حسب طرفيها إلى :
المرسل : ( أبو عبد الله الصغير) ــ المتلقي: ( سلطان فاس)
ومن حيث المؤلف فهي ارتكزت إلى :
تكليف (الصغير) ــــ بــ ……….تعبير(العقيلي)
أما من حيث الغرض فهي تندرج تحت غرضين هما : المديح ـــــــــ الرثاء
تبدو ظاهرة التوازي عبر هذه الثنائيات واضحة في هذه القصيدة التي جاءت في الشكل الخارجي ، و من حيث موضوعها الذي توزع بين غرضين رئيسيين هما الرثاء والمديح مثلما كانت ثنائية في فعل وجودها ، فهي برغبة أبي عبد الله الصغير ، ومن تعبير لسان كاتبه العقيلي ، وكذلك في الوزن العروضي الذي اختار له الشاعر إيقاع البحر البسيط الذي يقوم على تواتر تفعيلتين مختلفتين متناظرتين هما : مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
ويحضر اللون بصورة ثنائية عبر اللونين الضدين : (الأبيض والأسود) في موضع الفخر بماض كان فيه يذيق الأعداء الموت حيث يصطبغ السيف بلون دمهم في قوله :
والسَّيفُ يخضبُ بالمُحمّر منْ علقٍ
ما ابيض َّمن سبلٍ واسودَّ مِنْ للمِ
وفي موضع آخر يستحضر اللون في إشارة رامزة إلى اجتماع المتناقضات تجسيداً لواقع الحال التي آل إليها مصير الشاعر ، و تبدل المكانة في قوله :
فاسودَّ ما اخضرَّ منْ عيشٍ دهتْهُ عدا
بالأسمرِ الّلدنِ أوْ بالأبيضِ الّلخمِ
أما من حيث المضمون فقد انقسمت القصيدة من خلال أسلوب الكلام إلى الخبر ، وهو الأكثر لأن الرسالة هي للإبلاغ ، ولذلك تكثر فيها الأخبار المؤكدة التي أرادت تبليغ النبأ ، وتصوير الواقع بصورته الحقيقية وهذا ما يفسر ندرة الصور ، فالمرسل في حالة المعبر لا المصور ، ومن صور الأسلوب الخبري قوله :
وإنَّ روحَكَ عنْ قربٍ ميقضة
فيض المسلّمِ ما قدْ حازَ منْ سلمِ
أما من حيث الأسلوب فقد توازت بين الخبر والإنشاء ، وقد جاء الكلام الخبري ــ وهو الغالب على الأبيات ــ بأسلوب الخبر الابتدائي الذي يخلو من المؤكدات ، وهي فطنة من الكاتب تعكس رغبة نفسية في تحقق المطلوب , ، وهو مايتجلَّى في استهلال القصيدة الرسالة التي يقول في مطلعها :
مولى الملوكِ ملوكِ العُربِ والعَجم ِ
رعياً لما مثله ُ يرعى من النّعم ِ
بكَ استجرْنا ونعم َ الجارُ أنت َ لمَنْ
جارَ الزَّمانُ عليهِ جورَ مُنْتقمِ
أما الخبر الطلبي وهو الذي يشتمل على مؤكد واحد ، فثمّة ما جاء مؤكداً بحرف : (قد) الذي يلزم الفعل الماضي من مثل قوله :
يبكي عليهِ الّذي قدْ كانَ يعرفُهُ
بأدمعٍ مُزجَتْ أمواهُها بدمِ
وممَّا أُكّدَ بأسلوب القسم :
تاللهِ ــ عزَّ اسمُهُ ــ قدْ زانَها بحلى
منْ غرِّ أمداجِه ِكالدُّرِ في النّظمِ
فيما ورد أسلوب الإنشاء حسب الجدول التالي :
ومن أمثلة تلك الأساليب ما يلي :
أسلوب الطلب : الذي تراوحت أفعاله بين صيغتي : الأمر والنهي ، وما فيهما من حَمْلٍ دلاليٍّ انغلق في دائرة أغراض الاسترحام ، والاستعطاف ، والترجي ، ذلك أن المرسل (أبا عبد الله الصغير) ليس في موقع السلطة ليأمر وينهي ، كما أن المقام هو مقام تمنٍّ ورجاء واستجداء ، لا مقام أمر
ومن تلك الصيغة الطلبية أفعال : (ابسط ، اعذر،لا تأخذنا ، لا تلم ،عد )
يقول في صيغة الأمر الخارج إلى غرض الاستعطاف :
وعدِّ عمَّا مضى إذْ لا ارتجاعَ لهُ
وعُدَّ أحرارنا من جملةِ الخدمِ
كما نلحظ أسلوب النداء الذي جاء في إفادة التعظيم :
يا منْ تطيرُ شرارٌ منْهُ مُحْرِقةٌ
لكلِّ مُدَّرعٍ بالحزم ِمُخترمِ
والاستفهام الذي خرج إلى غرض التنبيه :
فلا تنمْ تحتَ ظلِّ المُلْكِ نومَتَنا
وأيُّ ملكٍ بظلّ المُلْكِ لمْ ينَمِ ؟!
الخاتمة :
وبعد تلك كانت وقفة سريعة في أضاميم تراثنا ، ونظرة على شعر رثاء الذات لدى آخر حكام العرب في الأندلس التي حاولنا من خلالها أن نُسلّط الضّوء على تراثنا في بقعة من بقاع الأرض التي سطعت يوماً عليها الشَّمسُ العربيَّةُ ، فحوَّلتْها إلى حاضرةٍ للمعرفة والثقافة ، ومركز إشعاع أفاد من نوره الغرب ، فيما خسرناهُ نحن العرب .
د . وليد العرفي