يتطلع السوريون اليوم بعد 77 عاماً على جلاء آخر جندي فرنسي محتل عن أرض الوطن إلى طرد ما تبقى من فلول الإرهاب وداعميه، وتطهير ربوع الوطن من رجسهم وعمالتهم وجرائمهم.
وكما في السابق سيجر العدو أذيال الخيبة ويخرج صاغراً، وستصدح حناجرهم من جديد فرحاً وافتخاراً قائلين:
يوم الجلاء هو الدنيا وزينتها .. لنا ابتهاج وللباغين إرغام
وكيف لا يكون يوم النصر قريباً وقد غرس الجلاء في ضمائر الأجيال المتعاقبة طيب الذكرى التي يفوح منها عبير الياسمين الدمشقي المتدلي من شرفات المجد على امتداد وطننا الحبيب.
إن الاستعمار الفرنسي أراد من احتلال سورية نهب خيراتها والتحكم بمصير أبنائها، ولكن منذ اللحظات الأولى لدخول أولى طلائع الاحتلال الفرنسي إلى الساحل السوري عام 1918، كان للثوار بقيادة الشيخ صالح العلي كلام آخر، فكانت الرصاصات الأولى ضد الاحتلال هي شرارة اندلاع مقاومة شعبية مسلحة ضد المحتل على امتداد مساحة الوطن.
وكما علمنا التاريخ في كل محنة تعصف بالبلاد، تجلت الوحدة الوطنية في أبهى صورها، واستنهض الخطر السوريون في على امتداد ساحة الوطن في الساحل والشمال وحوران وجبل العرب ودمشق وحمص والمنطقة الشرقية وغيرها لمقاومة المحتل الفرنسي، رغم محاولاته زرع الفتنة والفرقة والانقسام بين أبناء الوطن الواحد.
معارك خالدة
بدأت مقارعة الشيخ صالح العلي لقوات الاحتلال الفرنسي منذ أن بدأت بالانتشار على طول الساحل السوري في تشرين الثاني 1918، ودامت ثورة الشيخ صالح في جبال المنطقة الساحلية حوالي أربع سنوات حتى شهر تموز من عام 1922، وكانت أهم معاركها المشرفة: قرية سلمى، قرية ترتاح، الشيخ بدر، وادي الورور، بيدر غنام، حيث تم تحرير قلعة المريقب في 21 تموز 1919 من قوات الاحتلال الفرنسية.
معركة تلكلخ
في أوائل كانون الأول 1919 واجه أهالي بلدة تل كلخ رجال الحامية الفرنسية الموجودة هناك بسبب إصرار هؤلاء على رفع العلم الفرنسي على دار الحكومة، ولما أقام الاحتلال الفرنسي مخفراً لهم في المدينة قام الأهالي بمهاجمته، وهددتهم قوات الاحتلال بضرب منازلهم بالمدفعية وحرقها، فحزم الأهالي أمرهم على التصدي، وشكلوا لجنة دفاع وطني.
وتمكن أهالي بلدة تلكلخ بمساعدة بعض المجاهدين الذين قدموا إليهم من حمص في هجوم شنوه على المخفر في 13 كانون الأول 1919، من قتل وجرح عدد كبير من أفراد الاحتلال، وبلغ انزعاج المحتل الفرنسي من ثورة الأهالي عليهم غرب حمص إلى درجة أن الجنرال غورو ضمنها في إنذاره المشؤوم.
معارك استنزاف
استفاد أبطال الجلاء في عملياتهم العسكرية ضد قوات الاحتلال الفرنسي الأكثر عدداً وعتاداً من مكونات الطبيعة الجغرافية كالجبال “جبل العرب، جبل عامل، جبال عكار، جبال المنطقة الساحلية، جبل الزاوية، جبل الأقرع”، والأحراش “غوطة دمشق، بساتين حمص وحماه، غابة الفرلق”، والأنهار “نهر العاصي، نهر الفرات، نهر الخابور” وخاضوا حرب عصابات ضدهم سواء في معارك مباشرة أو في وقائع كر وفر حسب شروط المعركة وطبيعتها.
هاجم المجاهدون السوريون الأبطال المراكز العسكرية للاحتلال الفرنسي المنعزلة وحاصروها لجذب قوات العدو إليها، كما هاجموا أرتاله أثناء تحركها، وعمد المجاهدين الأبطال إلى شل قوات العدو وإضعافها أينما وجدت بحرب استنزاف كبدت العدو خسائر فادحة.
معركة ميسلون
توحد السوريين لكتابة ملحمة الاستقلال وكتبت معركة ميسلون عنوانها وخط المجاهدون بقيادة الشيخ صالح العلي وابراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد العياش وسلطان باشا الأطرش بقية فصولها.
معركة ميسلون التي استشهد فيها وزير الحربية آنذاك يوسف العظمة جاءت رداً على محاولات المستعمر الفرنسي فرض شروطه على سورية عبر إنذار “غورو” في الـ 14 من تموز عام 1920، وكان وزير الحربية يدرك الفارق الكبير بين الطرفين لصالح قوات الاحتلال الفرنسي المتفوقة بالعدد والعتاد، إلا أنه قرر أن يسجل ومن معه من السوريين الأبطال تاريخاً نضالياً بدمائهم الطاهرة.
رسخ البطل يوسف العظمة في تلك المعركة أهمية الجيش، حيث أصر على أن يكون معظم المقاتلين معه في المعركة من عناصر الجيش، ليكون ذلك منطلقاً لحقيقة جديدة كرست مؤسسة الجيش كرافعة أساسية للدولة الوطنية المستقلة، وجعلت منه ضمانة للتصدي للعدو، وهي الحقيقة التي تجلت قولاً وفعلاً في تاريخ سورية حتى اليوم.
الثورة السورية الكبرى
من الساحل إلى الشمال، وصولاً إلى المنطقة الوسطى ودمشق وغوطتها والسويداء التي أعلن فيها سلطان باشا الاطرش الثورة في الـ 21 من تموز عام 1925، من خلال إذاعة بيان سياسي وعسكري يدعو الشعب السوري الى الثورة على الانتداب الفرنسي.
و حرر سلطان باشا الأطرش صلخد وحرق مفوضية الاحتلال الفرنسي فيها، وفي أوائل أيلول من عام 1925 هاجم قوة فرنسية في بلدة الكفر بقيادة الكابتن نورمان، حيث كانت للمجاهدين الأبطال الكلمة الفصل في هذه المعارك التي تكبد فيها الفرنسيون خسائر فادحة بالأفراد والعتاد.
اكتمال دائرة الثورات ضد المحتل
وفي دمشق وغوطتها قاد حسن الخراط رجاله في غارات ليلية على أماكن تجمع وانتشار قوات الاحتلال الفرنسي في أحياء الشاغور وسوق ساروجة والجزماتية، ودمروا العديد من مقارهم، وقتلوا أعداداً منهم، كما سيطر الأبطال على مقر المندوب السامي الفرنسي في قصر العظم بمدينة دمشق.
أما في المنطقة الشرقية فاستطاع محمد بك العياش تشكيل مجموعات ثورية لضرب القوات الفرنسية في مدينة دير الزور، ووجه المجاهدون الأبطال ضربات قوية ضدهم، وكان أكثرها إيلاماً للمحتل القضاء على ضباط فرنسيين في منطقة عين البوجمعة، على طريق دير الزور-الرقة، ورداً على ذلك قصفت الطائرات الفرنسية القرى، فتهدمت البيوت على رؤوس الاطفال والنساء واشتعلت النيران في الحقول والبساتين.
وصل صدى معارك المنطقة الوسطى ضد الاحتلال الفرنسي التي قادها فوزي القاوقجي إلى أصقاع البلاد، بعد أن هاجم الأبطال بقيادته الفرنسيين المحتلين في حماة في الرابع من تشرين الأول عام 1925، وكاد أن يحرر المدينة لولا قصف طائرات الاحتلال العنيف للأحياء الشعبية، وبمساعدة القبائل في البادية حقق البطل القاوقجي انتصارات مهمة على القوات الفرنسية وحامياتها وأنزل بها خسائر فادحة.
معارك الشرف والبطولة التي خطها السوريون بدماء الشهداء لطرد المحتل الفرنسي والتي أنجزت الاستقلال في الـ 17 من نيسان عام 1946 ستبقى قاعدة صلبة لدعم النضال الوطني للتحرر من الاستعمار بكل أشكاله وألوانه، ومنطلقاً للكفاح من أجل بناء وطن قوي، بعد تطهير آخر شبر من دنس الإرهاب، وتحرير الجولان المحتل من كيان الاحتلال الإسرائيلي الغاصب.
ومع إحياء السوريين لذكرى الجلاء المجيد، يؤكدون اليوم أنهم أهل لحمل الراية التي تمسك بها الآباء والأجداد ورفعوها عالياً في سماء العزة والكبرياء، فالمعركة من أجل الكرامة والاستقلال واحدة ودروس التاريخ النضالي تؤكد أن الانتصار على قوى الاستعمار سيتبعه اليوم القضاء على الإرهاب ورعاته بفضل بطولات جيشنا الباسل وشعبنا الصامد.