” مات أبو سعدة”انتشر الخبر في المدينة ، كانتشار النار في الهشيم فعلى الرغم من أن موته كان متوقعاً ، فهو قد تجاوز المائة سنة ، غير أن الكثير من الناس كادوا لا يصدقون الخبر .
الصغير والكبير يعرف أبا سعدة شيخ الحمالين وراوي الحكايات والمغامرات والأحداث التي ملأت سني حياته ، وأنا منذ استوطنت الحي وصرت جاراً لأبي سعدة أتردد على منزوله وأستمع إلى حكاياته المثيرة .
منذ كان أبو سعدة فتى مروراً بأيام شبابه ووصولاً إلى كهولته عمل حمالاً في ” سوق الحنطة” وانتشر صيته كحمال قويّ وأمين / فاستحق لقب ” شيخ الحمالين ” بجدارة
(سقى الله أيام زمان كانت الحنطة والطحين وخبز التنور ، واليوم تغيرت الدنيا ، فهل هذا الخبز الذي نأكله هذه الأيام مثل الذي كنا نأكله قبل سنين بعيدة !! لا ، أبداً ..)
يقول لي وهو يناولني فنجان القهوة العربية ، فأرتشف ما فيه دفعة واحدة ، وأهزّه قبل أن أعيده له .
صورة أبي سعدة المعلّقة على الجدار ، تظهره شاباً ، وجه كبير مدور ، وعينان ثاقبتان كعيني صقر ، وثمة قبعة تغطي رأسه .
الغريب في قصة حياة أبي سعدة ، أن أحداً لا يعرف أصله وفصله ، كما يقال فهو يقول إنه جاء في العاشرة من عمره إلى المدينة من قرية بعيدة ، بعدما مات أبواه وتركاه وحيداً .
وفي ” سوق الحنطة ” آواه أحد التجار ، وصار حمالاً في السوق .
تزوج أبو سعدة ، ابنة معلمه تاجر الحبوب وأنجب منها سبع بنات ، ويقول إن كل واحدة منهن هي الأغلى ..!!
المثير في حياة أبي سعدة ، والذي منحه شهرة كبيرة ، هو أنه راوٍ ممتاز لأحداث حياته ومغامراته ، بأسلوب شائق ، قلّ نظيره وكل حكاياته عن شجاعته ورجولته ّ
حدثني مرة فقال 🙁 كنت في إحدى الرحلات مع معلمي في الريف الشرقي في موسم الحنطة ، ذات سنة قبل أربعين سنة وأدركنا الليل قبل وصولنا إلى القرية التي نقصدها و فجأة ظهر لنا وحش كبير انقض على معلمي التاجر فنهش ساقه و تدفق الدم غزيراً منها .
توقف عن الكلام مما جعلني أتشوق لمعرفة ما الذي حصل بعد ذلك و عندما سألته و ماذا بعد ؟
أجابني بلا مبالاة: مددت يدي والتهمها الوحش لكني و بسرعة فائقة قبضت على لسانه و اقتلعته خارج فمه فراح الدم يسيل منه فارتبك و أعدت الحركة بعدما ألقيت بلسانه بعيداً و أدخلت يدي حتى المرفق في فمه و اقتلعت جزءاً من أمعائه و هكذا راح يترنح ثم سقط على الأرض فأكملت عليه .
ووجدت نفسي أسأله …وماذا حصل له بعد ذلك؟ فأجابني ساخراً مستنكراً السؤال: بالتأكيد لم أذهب بجثته إلى المقبرة لأدفنه بل تركته طعاماً لوحوش أخرى…
اللافت في قصص أبي سعدة أنه لا يذكر شاهداً على ما حصل معه من أحداث سوى معلمه التاجر الذي مات منذ زمن بعيد وحدثني ذات مرة انه شاهد في إحدى القرى حماراً يتعثر في مشيته بسبب حمل الحنطة الثقيل فأشفق عليه و حمل كيسين كبيرين كانا على ظهره و أوصلهما إلى العربة التي ستنقل الحنطة إلى المدينة و قد حصل ذلك وسط دهشة و استغراب الناس و تصفيقهم له ” مات أبو سعدة “.
لم يعد في المدينة راو و لم نعد نستمتع بقصصه و سواء كانت تلك الحكايات التي بطلها الوحيد هو أبو سعدة غير صحيحة أوقد تكون صحيحة بعض الشيء فإن الرجل ترك فراغاُ و إن الناس سيذكرونه لبعض الوقت , فهل تنسى هذه الحكايات و المغامرات و البطولات الفردية كما ينسى صاحبها أم ترانا سنشاهدها في مسلسل طويل أو نقرؤها في كتاب؟!
عيسى إسماعيل