الشاعر عبد الباسط الصوفي وحصاد السنابل الخضراء

تأسست المدرسة الرومانسية بمدينة حمص في الستينيات من القرن العشرين على يد الرواد الأوائل ( وصفي قرنفلي) و(عبد السلام عيون السود ) و(عبد الباسط الصوفي) ولم يتح للأخير أن يعطي بقدر ماكان يتمتع به من موهبة نادرة، ولم يقدر له أن يعرف على المستوى الذي يجب أن يعرف به من أصالة شعرية، ومن طموح إلى التجديد في الحركة الشعرية الناهضة يرتفع إلى مستوى ثورة فنية متمردة على تقاليد الشعر القديمة التي لم تعد في معظمها صالحة لإيقاع العصر .
ماهي ياترى ملامح البيئة الأدبية السائدة في حمص خلال النصف الأول من القرن العشرين، لقد كانت تلك الحقبة حافلة بالأحداث الوطنية التي تحفز القرائح الأصيلة والأقلام الموهوبة للتعبير عن الغضب والغيظ من الاستعمار الفرنسي ، وكان الشعر السلاح الأمضى في هذه المواجهة القوية ، لأنه الفن المتقدم آنذاك الذي يعبر عن العواطف والآمال ، وقد تبلورت حينذاك التيارات الأدبية التالية 1 – تيار الإحياء الشعري ، وهو تقليدي محافظ متشدد شكلا ً ومضمونا ً ومن رواده ( رفيق فاخوري) و(رضا صافي) وقد أعاد للشعر نضارته ، واستبدل بثوبه الخلق البائس ثوبا ً جديدا ً جميلا ً، وتمحورت موضوعاته حول مقارعة الانتداب والحكومات العميلة، ونقد العيوب الاجتماعية.
2 – تيار الرومانسية الثورية المتمايزة ، وهو تيار تجديدي منعتق ومتحرر من القيود
التقليدية مضمونا ً وشكلا ً ، ينزع الوصاية والحراسة ، ويرنو إلى أفق التجديد الشعري ومع شعور مبرح بالغربة الروحية ، ويرغب بالتمرد على الموروث الاجتماعي والأدبي ، ومن رواده كما ذكرنا ( وصفي قرنفلي) و(عبد الباسط الصوفي) و(عبد السلام عيون السود ) وغيرهم.
3 – تيار الواقعية الاشتراكي، وهو تيار اشتراكي تقدمي ملتزم ثائر على التيارين الكلاسيكي والرومانسي، يدعو إلى الأدب الهادف البناء الذي يجند فيه القلم لخدمة قضايا المجتمع حتى يتحرر من رواسب الاستعمار ، لينهض من جديد ، ويحتل مكانه اللائق بين الأمم ،
أما الشاعر ( عبد الباسط الصوفي) فقد ولد عام (1931) في حي (ظهر المغارة) العريق بـ ( حمص) من أسرة أقرب إلى مستوى الفقر ، وحصل على الشهادة الثانوية عام (1950) وعين معلما ً في ريف (حمص) وفي سنة (1952) انتسب إلى المعهد العالي للمعلمين بـ ( دمشق) ونال شهادة الإجازة باللغة العربية سنة (1956) .
مارس مهنة التدريس في ثانويات ( حمص) و(دير الزور) وفي عام (1960) أوفدته وزارة التربية إلى مدينة (كوناكري) عاصمة (غينيا) لتدريس اللغة العربية ويوم (20) تموز عام (1960) مات منتحرا ً إثر انهيار عصبي شديد ألم به وقد نقل جثمانه بحرا ً حيث دفن في مسقط رأسه (حمص) عندها أيقن أهل حمص أنهم لن يسمعوا بلبلهم الغريد مرة ثانية وقد بلغ من العمر تسعة وعشرين عاما ً وعمر الورود دائما ً قصير، وقد رثاه بقصائد تقطر ألما ً ولوعة وبمقالات ترشح حزنا ً عند وفاته عدد كبير من الشعراء والأدباء .
إن تقصي أسباب انتحاره ، وتحليل بواعثه الحقيقية تنبع من تقصي دوافع سفره في بعثة تعليمية إلى (غينيا) وقد يكون منها البحث عن المناخ الإنساني والشهوة العارمة لاكتشاف عالم جديد مجهول ، ومعاناة لتجربة جديدة وجري وراء الغامض المبهم ، وتسلية وسلوى وانفتاح بعد انغلاق طويل وتحرر من بعض القيود ، كذلك محاولة الهرب من الحبيبة المتقلبة العواطف ومن الأهل التقليديين الذين لم يستطيعوا فهم نفسيته المرهفة ورفضه للمجتمع الجليدي ، وأخيرا ً انتهى إلى حالة مضحكة من اليأس وعدم المبالاة ، والإصرار على تهديم نفسه .
ويمكن أن نضيف أيضا ً أنه كان شابا ً شديد الحساسية ، يعيش تجربة نفسية مدمرة، وحالة عشق محمومة لفتاة أحبطته بمشاكلها المتواصلة ، وقد يكون انتحاره نوعا ً من أنواع الاحتجاج ضد بؤس الحياة وخواء العالم، وفراغ الوجود ، وفي تقديري أن شاعرنا عانى من ضواغط نفسية كبيرة جدا ً كذلك الشعور بالاضطهاد والدونية ولعل هذه الأبيات للشاعر المتشحة باليأس والسواد تعطينا فكرة واضحة عن الهبوط النفسي الحاد الذي كان يعاني منه:
إلى أين نجر ظلالك الخضراء ياوجد
فأرضي كلها قطر، تموج رمالها الجرد
تفور فيها ينابيع السماء ، ويعصف البرد
فهل في الوتر الهامد لحن لم يمت بعد .
إن الحالة الرومانسية التي اعترت الشاعر ( الصوفي ) تمظهرت لديه في عشقه للخيال والطبيعة والعزلة والحب والفن والشعر ، وسلوكه المتمرد الثائر ضد النمطية والرتابة والتشاؤم الروحي ، بالإضافة إلى غرقه الدائم بالأحلام الوردية والكوابيس المرعبة ، وعدم الرضا عن الواقع والتعلق والحزن أمام جبروت الحياة ، فقد أسبغ وهو محق على ذاته صفة العبقرية وأنه استثنائي يجمع في إهابه أميرا ً ولكن المجتمع ينظر إليه على أنه عبد !! بالإضافة إلى تفكير طوباوي مثالي يقول في إحدى قصائده الرائعة :
أين مكاني؟.. لاتقولوا غريب يفرش للوهم فسيح الدروب
قلب على نبضاته ..موصدٌ ونظرة ضلت وراء الغيوب
ومن قصيدة ينقش فيها على وجه القمر ، يخاطب فيها أمه بيأس واضح:
أنا قرب السرير أنسج ياأم أماني من شحوب .. المساء
وغداً أنزوي وتمشين .. للقبر وتصحو الخطا ..على أشلائي
إنه انكسار مؤلم ، فقد أبحر شاعرنا مبكرا على سفينة الموت بعد أن أنشب به نابه وحصدها بمنجله في تألق العمر ونضارة الحياة .
لقد كان التطابق بين شخصية ( عبد الباسط) الرومانسية وشعره الرومانسي كاملا ً ففي شعره إيجابية مطلقة، وفرح طاغ، وتحسس عنيف للمجتمع وتمثل للكون كله بآلامه الخلاقة، وتشاؤمه الباسم ، وقلقه المطمئن ومحاولة للوصول إلى الحقيقة والجمال، وطموح للتعبير الحي عن وجدان الأمة في تجربة وجودية نازفة بالغربة ، فهو إذن يتطابق بين منهجه الشعري الرومانسي وقصائده التي جسدت بصدق نظرته الرومانسية لحقائق الحياة ومتناقضاتها .
نزيه شاهين ضاحي

المزيد...
آخر الأخبار