ليليت ربة المهد السومرية التي تهز الطفل وتهدهده وتغني له كي ينام بطمأنينة وسلام , وقد حاولت اليهودية أن تجعلها قاتلة تخنق الأطفال بشعرها الأسود لأن – يهوه – لايريد الوئام والسلام ولايريد انساناً آمناً مسالماً وإنما يريد محارباً قاتلاً فهو رب الجند .
وليليت نجدها في انزياحها مازالت تعيش بيننا في الحنان القاتل أو نمط الأم التي بحنانها تفسد أبناءها وبالحب تقتلهم . فما أكثر وجودها في واقعنا اليوم وفي أدبنا : وإن كانت في شعرنا السوري الحديث تنزاح الى الحنان الدافئ الجميل في ارتدائها ثوب الأم وهذا الثوب أحب أن ألامسه في قصيدة – ثلاث بطاقات الى أمي – للشاعر عبد النبي التلاوي , ففي البطاقة الأولى – قيامة – :
قام المساء فقمت أبحث في نوافذ لهفتي
عن قلب أمي ..
كنت أبحث عمن يكتب الآهات مسماراً
على خشب الدموع
وألملم الأشعار أوتاراً لموال
يحن الى الرجوع
من كان يمنحني سواها حين تكسرني كوابيس الليالي قبلةً
من كان يشعل في ليالي قهرنا السري أشجار الشموع
نجد- قام المساء – ارتباط الحنان الدافئ لليليت مع هبوط الظلام وليليت هنا تنزاح الى قلب الأم والطفل يلملم أشعار – ليليت – التي تغنيها من أجل نومه بسلام وطمأنينة , وهذه الأشعار أوتار يعزف عليها موال الأم وهذا الموال غاب لأن صورة – ليليت – شوهت , ولذلك يحن الى الرجوع أي الى ربة المهد وهدهدتها أسرة الأطفال ليناموا بهدوء وحب .
والطفل دونها تكسره كوابيس الليالي , وهي وحدها تمنحه القبلة لتزول الكوابيس بكل ما في الكوابيس من رعب وما في القبلة من حب وحنان ودفء .
إنها الأم المنزاحة عن – ليليت – تضيء ليالي الأطفال وإضاءة الشموع توحي بالرقة والرهافة والهدوء المغلف بالأحلام مثلما توحي الأشجار بالمهود التي كانت تصنعها – ليليت – للأطفال ليرقدوا فيها بسلام .
إن وظيفة – ليليت – مازالت قائمة والشاعر بحاجة ماسة لليليت القديمة أو الأم المعاصرة تعيد إليه توازنه النفسي وتريح أعصابه المتعبة . وفي البطاقة الثانية – طفولة – :
أمي أتيتك من ضياع البسمة الأولى على شفتي
حملت الدمع في الخدين شامة
ورفعت شاهدة لقبر أخي على كفي حمامة
ودعت آلام الشباب وعدت طفلاً يملأ الدنيا صداحي
وهربت من حزن السنين لألتقيك أمام نافذة الصباح
أرنو الى طهر الحبيب وخفق ثديك كالجناح
فأنام يا أمي وتحضنني طيور في يديك
ينام قلبك في جراحي
يهرب الشاعر من آلام الشباب , من الدمع من حزن السنين ولكن الى أين المهرب أو المفر ؟! الى البسمة الأولى على شفتي الطفل عندما يلتقي أمه أمام نافذة الصباح , ليليت كانت تأتي الى البيوت من نوافذها تهدهد سرير الطفل لينام , ولنتأمل هذا الانزياح الفني الرائع لدى الشاعر :
فأنام يا أمي وتحضنني طيور في يديك
ينام قلبك في جراحي
كفا ليليت اللتان تهدهدان سرير الطفل في خلاياهما في ملمسهما الحريري الحاني الدافئ طيور والطيور ريش ناعم حنون وكائنات يعشقها الطفل . ويصل التعبير الى ذروته في العبارة الأخيرة :» ينام قلبك في جراحي « فالقلب حب وحنان ودفء وأمان وإن كان قلب الأم لا يوصف والقلب في الجراح بلسمة وشفاء إنه قلب – ليليت – يمتد من ربة المهد السومرية الى أم الشاعر ويبقى الحنين لاهباً الى البسمة الأولى التي ضاعت ويظل النمط الأولي المنزاح يطل علينا إطلالة حلم جميل يومض ويختفي وكأنه يقول : اقبضوا علي ففي لذة الاكتشاف وفي الاكتشاف دهشة وجمال .
د. غسان لافي طعمة
المزيد...