ترانيم قيثارة الروح … ديوان للشاعر نبيل باخص

لماذا راح بعض الشعراء المعاصرين يهجرون قصور الجسد؟ ويقدمون طلبات لجوء رومانسي لخيمة الروح الممزقة في العراء ؟ شأنهم في ذلك شأن الشاعرة ( ميسون بنت بحدل ) التي هربت من العيش الهنيء في قصور الخلفاء الضخمة إلى خيمة قبيلتها المتواضعة في البادية القاسية ، وبررت هروبها الجميل هذا بأسباب مادية ساذجة، فهذا شاعر يسمي ديوانه الذي تسيل منه الدماء البيضاء ( جراح الروح )وذاك شاعر يختار عنواناً مأساوياً لديوانه ( نفثات الروح ) وآخر من على كرسي الاعتراف يسمي ديوانه ( بوح الروح ) إلى آخر الدواوين الروحية ، فهل السبب يكمن في الزهد بمتطلبات الجسد التي لاتنتهي ؟ أم هي الرغبة في العزلة والتأمل ؟ أم أنه حنين الناي إلى غابات القصب ؟ أم أنه هروب النحل البري من العسل المر المطبوخ في المدن ؟
والشاعر ( نبيل باخص ) في ديوانه ( ترانيم قيثارة الروح )، لم يغرد خارج السرب الروحي ، ولكنه حاول التميز في النبرة البارقة ، والطروحات الناضجة ، عبر ترانيم شفافة ، عالية الوترية والصداح ، مفعمة بالتوق الشديد إلى مموسقة درامية انتقائية ، تحاول تطويع الهرموني بين الجسد والروح .
وقد تنوعت قصائد الديوان البالغة ( تسعين ) قصيدة بين الوجدانية الشخصية ( الأم –عيد الأم –حنانك-هي ليلة –أبي ) والاجتماعية الانتقادية ( غيمة الشر – المشتى – إلى معلولا – من الناس – حمص في عيني – الدين لله والوطن للجميع ) وبقية القصائد مناجاة صادقة بين الشاعر والله سبحانه وتعالى وأنبيائه ورسله الأكرمين ، وكم نحن بحاجة إلى هذه السدود الروحية التي تقاوم طوفان الشر بسفينة الحق والخير والجمال والتسامح ، وبث روح الإخاء والمحبة .
يقول الشاعر من قصيدة ( هي الأم ) :
ماذا أقول وخيط الحب في يدها
إنّ الفؤاد لغير الأم ما ذهبا
كم هدهدتني وغنت لي أغانيها
كم داعبتني بأنسام وريح صبا
كما يقول من قصيدة ( أبي ) :
يا فريداً في عالم الأحياء
أنت عندي كالنسمة الخضراء
في تقديرنا أن حديث الشاعر عن أبيه وأمه هو حديث الفروع للجذور الخالدة ، وبوح الحب الصافي والحنين الدفاق ، وهو بالضرورة خالص من شوائب المبالغة أو المجاملة ، يأتلق بالصدق ، ويشع بالوفاء .
ومن قصيدة ( الدين لله والوطن للجميع ) :
شريعة الله للإنسان واحدة
حب السماء وتغريد على فنن
لو كان هذا الفهم الصحيح للشرائع السماوية يعم جميع الأفكار ويسكن كافة القلوب ، ويضبط كل السلوكيات ، لكانت الدنيا جنة الله على أرضه ، بعد أن حولها الإرهابيون إلى جحيم لايطاق .
ومن قصيدة ( حمص في قلبي ) :
حمص في قلبي وفي روحي صداها
قد هداني الشعر أعماق المعاني
روعة الحسن قل ربي حباها
أجمل الألحان قد هزت كياني
يذكرنا هذا الشعر بشعراء المهجر من الحمامصة الذين عشقوا مدينتهم ، وحملوها معهم وشما لايزول يفيض بالشوق والحنين وفي مقدمتهم الشاعر ( نسيب عريضة ) .
لاشك في أن الأغراض في هذا الديوان نبيلة المضمون ، مجيدة الأهداف ، ولكن نبل المضمون لايشفع وحده كي تحوز القصيدة على علامات النجاح ، فلابد أن يقترن ذلك بسوية فنية عالية كي تختلف عن الكلام العادي الذي لايستحق التسجيل ، ففي بعض الأبيات طغى المضمون النبيل على الشكل الفني ، فهوت سطوح البيوت الشعرية بعد أن أزيلت أعمدتها الفنية فجأة هوت على أرض التقريرية والمباشرة كقوله :
ذكريات بالهوى تبقى طويلاً
ذكريات مالها في القلب ثاني
كما نحت بعض القصائد منحى الوعظ والإرشاد قصيدة ( من الناس ) نموذجاً ، ولايخفى بأن أسلوب الوعظ والإرشاد بات مرفوضاً ويجب التعويض عنه بالقدوة الحسنة . في شعر هذا الديوان ترابط فكري ، يسوق الأفكار في طريق منطقي ، يقود إلى غاية تصويرية جمالية ، فيها مادة غنية وجدلية تحليلية ، وألفاظ منتقاة في خدمة المعنى المتمرد أداء وتصويراً ، وينطلق العقل تحت سيطرة الحس فتتولد المعاني ، وتصقل المرايا وينتثر اللجين .
لقد مهد الشعراء بقصائدهم الاجتماعية الأرض الوعرة ، حيث يمكن لبذور الأمل أن تنمو حتى وإن أعلنت طيور البوم كلها بأنه ليس هناك من وجود لضوء النهار خارج أوكارها فسوف تبقى هذه الكذبة كذبة ، ويكفي بلبل واحد ليعلن بأن هناك ضوءاً للنهار حتى يشق بتغريده أسداف الظلام لتظهر الحقيقة للعيان جلية واضحة .
نزيه شاهين ضاحي

المزيد...
آخر الأخبار