منحته حبا كبيرا يتدفق كل يوم بغزارة من نبع قلبها الكبير المفعم بالحنان، والمحبة ..كانت شمعة مضيئة تحترق من أجله ،ولأجل راحته ،وراحة الأولاد ..نحلة نشيطة لا تكل ،ولا تمل، تتعب بالليل ،والنهار لكي تبقى أسرتها سعيدة لا ينقصها شيء ..تزوجته طالبا في كلية الهندسة المدنية ،فقير الحال، لا يملك شيئا، وأصرت على أن يكمل علمه ..كانت تقول له: “لا عليك بالحب نصنع المستحيل”
فعملت كمربية أطفال ..تهتم بهم وترعاهم أثناء الدوام الصباحي لأمهاتهم بالإضافة لرعاية أولادها، وبيتها ،وتأمين مستلزماته..
لقد مارست دور الأب ، والأم في عائلتها، وما أدراك ما التعب الكبير الذي تعانيه جراء ذلك ؟!..
لقد تناست نفسها، وأنوثتها ،وصحتها من أجل تأمين الجو المناسب ،والراحة الكافية لزوجها الطالب الجامعي من أجل أن يكمل سنوات الدراسة ،وفي كل يوم كانت تمني النفس بانفراج قريب ،وذلك عندما يصبح زوجها مهندسا كبيرا يستلم وظيفة مهمة ،ويشرف على مشاريع ضخمة في مجال البناء ،أو الطرق فيتحمل عندها أعباء المنزل المادية ،ويتحسن وضعهم ،وربما يشترون سيارة ،ومنزلا أيضا يكون ملكا لهم
كانت تحلم ،وتحلم آخر كل نهار إلى أن تغط بنوم عميق من شدة التعب ،ثم تستيقظ صباحا لتبدأ دورة الشقاء اليومية ..
لن تنسى ذلك اليوم المنتظر الذي رن فيه هاتفها صباحا، حاملا لها بشرى تخرج زوجها ..أتاها صوت قريبها الموظف في الجامعة في قسم الشؤون العلمية للطلاب، والذي حمل لها البشرى ،أشبه بزقزقة العصافير العائدة في يوم ربيعي مشمس ،وقد غادر الشتاء بكل برده وتعبه وشحوبه ،كان وقعه في روحها كسمفونية جميلة تسبق قدوم العروسين إلى قاعة الاحتفال ..
كصوت قاضي المحكمة ،وهو يعلن حكم البراءة على متهم مظلوم عانى كثيرا ،وقضى أياما طويلة سوداء في زنزانته، منتظرا أن ينبلج نور الحق ، فيفتح له باب الحرية ليتنفس هواءها المنعش من جديد ..هكذا أحست ، وهكذا اضمحل كل عنائها مادام الفرح والفرج قد أتيا للتو ، فرقص قلبها ،ولمعت عيناها ،وانتفض جسمها النحيل بحيوية كوردة ذابلة أتاها الماء أخيرا ليتسلل عبر جذورها ،فأصبحت أوراقها غضة ، وألوانها زاهية ،فإذا بها تحيا من جديد ،وكأنها لم تعرف الذبول يوما..
هكذا ظهرت جميلة نشيطة قوية ،وكأنها لم تشق أبدا..والآن كيف لها أن تتحمل وطأة الانتظار ريثما يعود زوجها من الجامعة ؟!فقد ذهب ليستطلع النتيجة ، فطارت مسرعة ، فرحة إليه ،و قلبها يسبق قدميها لتحتفل معه بتخرجه أرادت أن تفاجئه ،فلطالما انتظرت هذا اليوم الذي يصبح فيه زوجها مهندسا ، عندما وصلت تسمرت في مكانها ،تسارع نبضها ،وتقطعت أنفاسها ،واستحالت السماء الصافية إلى شبح أسود يسخر منها ،شعرت ببراكين حارة تندفع من داخلها ،مفجرة صخورا وحجارة كثيرة ، تتطاير في الهواء ،ثم تعود لتهبط مسرعة لتستقر جاثمة فوق صدرها الغض ،يا لفظاعة ذلك المشهد!! ويالقسوته!!..لقد رأته، وقد رافقته إحدى الفتيات ،محاطين بأصحابهما ، وقد أمسك يدها واضعا محبس الخطوبة في إصبعها وسط تصفيق الأصحاب ،وأهازيجهم ..عادت خائبة منكسرة القلب ، تمشي بالشوارع منهارة تائهة،ودموعا حارقة تملأ مقلتيها، فتنسكب أنهارا على خديها ،وتكلم كل من يمر بها، مرددة عبارة واحدة: “لقد بادل التفاني بالجحود “ .”لقد بادل التفاني بالجحود.
منى نعيم الريس