الإيجاز أسلوب الموهوبين

الإيجاز صفة معروفة من صفات ( الكلام ) ،ونقيضه الإسهابُ والتفصيل . ولعل خير ما يعرف به الإيجاز هو أنه المعنى الكبير في اللفظ القليل أو إنه المضمون الغني الدَّسم في كلمات معدودات … بهذه الكلمات بدأ دراسته الدكتور قصي الأتاسي في «الإيجاز والشعر » , الأتاسي عمل في حقل الترجمة وعمل محاضراً في جامعة البعث وصدرت له عشرة كتب مترجمة عن الفرنسية وله كتابان قيد الطباعة مختارات شعرية «من سحر البيان» و«عصارة قلم» ومجموعة شعرية مطبوعة «لهاث السؤال » , يكتب المقالة والخاطرة , سنقتطع من دراسته جزءاً صغيراً : لقد أحب العرب الإيجاز ففضلوا الكلام الموجز على غيره ،بل إنهم جعلوا الإيجاز كما قالوا : خير الكلام ما قل ودلّ . وما أكثر الآيات القرآنية المتصفة بهذه الصفة الحميدة للأسلوب،مثل:في سورة هود عن سفينة «نوح..»وهي تجري في موج كالجبال» ثم ينتهي الطوفان: «…وقيل يا أرض أبلعي ماءك يا سماء أقلعي … « إنها في القمة من البلاغة وجمال التعبير وقوة الأداء والغنى بالمضمون … وفي الأمثال العربية نماذج رائعة لهذا الإيجاز الذي نتحدث عنه , إذ ترى اللفظ القليل , وقد تضمن المعاني الكبيرة الغنية ذات الأبعاد . ومن هذه الأمثال «تجوع الحرَّة ولا تأكل ثدييها» و «من غربل الناس نخلوه» .
الايجاز في الشعر
وننتقل إلى الشعر والإيجاز:الشعر لمح تكفي إشارته وليس بالهذر وطول خطبه إذ أن الحطيئة بفطرته الصافية وعفويته الذكية يقف موقفاً نقدياً سليماً فيه الكثير من الصحة والدقة والنظرة الثاقبة فيما يخص الشعر الجدير بهذا الاسم . ونحن مع الحطيئة فيما قاله عن الشعر الحقيقي من أنه التعبير الموجز المكثف الذي يغصُّ بالمعاني والدلالات أو يفيض مشاعر وانفعالات , ويوحي بما يوحي به من صور ومواقف وإيماءات . وإنك إذا تصفحت ديوان الشعر العربي في عصر ما قبل الإسلام حتى العصر الحديث فسرعان ما تقول معنا: نعم إن الشعر الحق هو ذاك الكلام الذي قلتْ ألفاظه وغصتْ هذه الألفاظ بالمعاني ذات القيمة والدلالة أو بالمواقف الانفعالية والشحنات العاطفية. أما الشاعر الكبير المخضرم بين العصرين الأموي والعباسي , الشاعر الضرير بشار بن برد فيقول : خلقت على ما فيَّ غير مخير هواي ولو خيرت كنت المهذَّبا .
أريد فلا أعطى وأعطى ولم أردْ وقصَّر علمي أن أنال المغَّيبا إنه موقف فكريّ فلسفي يعاني منه ابن برد كما يعاني منه كل متفكر في أحوال الدنيا والحياة …. أما الشاعر العباسي أبو نواس الحسن بن هانئ فيقول في وصف الدنيا: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق .
إنه في هذه البيت يلخص تجارب الناس المرة في هذه الدنيا و ماذاقوه منها من جزاء المكر والخديعة والخيانة …. ونبقى الآن مع حكيم المعرة فيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري : وهو الذي اشتهر بنظرته الفلسفية وآرائه الحكيمة وزهده في الحياة ….يقول : يا دهر يا منجزَ إيعاده ومخلفَ المأمول من وعْده .
نلاحظ الإيجاز الذي لا يقدر عليه إلا كل بليغ ملك زمام اللغة وبرع في التعبير عن أكبر القضايا وأجل المسائل بكلمات معدودات . لقد وصف الفيلسوف الإنكليزي (هوبز ) الإنسان بأنه ذئب كما أخذ كثير من الفلاسفة والمفكرين على الإنسان نزعته الشريرة هذه وعدوانيته التي أغرقت الكون بالنار والدم عبر التاريخ قال أبو الطيب : ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ واختتمت الدراسة بأبيات للشاعر اللبناني المعاصر جوزيف حرب من مجموعة شعرية بعنوان «مملكة الخبز والورد»» : فليكن الزمن الآتي من غير دماءْ من غير سلاح من غير أكف حمراء في عدة أسطر من الشعر الحديث, شعر التفعيلة وبلغة جميلة معبرة موحية شفافة ساحرة بإيجازها .
سلوى الديب

المزيد...
آخر الأخبار