صدر حديثا كتاب جديد بعنوان : «ومتى القلب في الخفقان اطمأن» دراسة ومختارات للدكتور ثائر زين الدين , من نتاجات الشاعر المعروف «أمل دنقل» ,الذي ينتمي إلى الجيل الثاني بعد جيل الرواد دون أن يجعله هذا الانتماء راضخاً لكثير من القيم الشعرية التي رسخها ذلك الجيل جمالياً ومعنوياً,لأن الشاعر دنقل ظل مسكوناً بهدف التجاوز والمغايرة دون أي سعي لاهث للنجومية الهزيلة,التي تأتي من خارج النص الإبداعي ,والتي تأخذ من الشاعر يفوق ما تقدم له بكثير ,هذا ما يوضحه الدكتور ثائر زين الدين في مقدمة الكتاب .
أسباب شهرته
ويبحث الدكتور زين الدين في أسباب شهرة أمل دنقل بين أقرانه من الشعراء فيرى أن دنقل غلَّب الوظيفة الاجتماعية والسياسية للشعر على سواها دون أن يتخلّى عن الاتجاه الفني الصحيح لها وقد ساعده على ذلك امتلاكه زاداً معرفياً مهماً وثقافة نقدية كان لها الأثر العميق في تطوير تجربته الشعرية يضاف إلى ذلك إحساسه بالتراث وطرق التعامل معه وفق صيغ فنية معاصرة فاستطاع تحقيق معادلة صعبة تقوم على القبض على ناصيتي العملية الإبداعية :جماليات الكتابة الفنية الراقية والمحمولات المضمونية والمعنوية الخارجة من أعماق تجارب الناس وتجارب الشاعر . فجاءت نصوصه من رحم معاناة الناس مرتبطة بهمومهم الاجتماعية والسياسية والإنسانية ,فالشاعر حريص على توصيل نتاجه للجمهور ,يرفض الغموض الشديد والتعمية والإبهام ,وقد صرح بذلك أكثر من مرَّة, ويرى أن للشاعر دورين :الأول فني والثاني وطني يوظف فيه فنه لخدمة القضايا الوطنية .
أمل دنقل الإنسان
يبحث الدكتور زين الدين في شخصية أمل دنقل الإنسان ويرى عوامل عدة ساهمت في بناء شخصيته منها الفقر الشديد فهو كان بلا مأوى يتنقل من غرفة إلى أخرى حتى أنه كان يضطر للتسجيل على الحساب حتى فنجان القهوة كما عانى الشاعر دنقل من الفقد مبكرا حيث رحيل أخته ثم وفاة والده وضياع إرث أبيه صغيراً فكان عليه أن يصبح رجلاً وهو في العاشرة ,وكان يرفض تناول الحلوى لأنها في نظره لا تليق بالرجال ثم تأثر بوالده وهو احد علماء الدين الإسلامي ,ثم مالبس أن تأثر بالفكر الماركسي ومن ثم الوجودي.
بورتريه
يحاول الدكتور زين الدين رسم بورتريه خاص بالشاعر أمل دنقل مستخدماً كل الوسائل المتاحة عنه من خلال ما قالته الصحف وما دونته عبلة الرويلي زوجته عن حياته معه خاصة في رحلة علاجه وشقائه وفقره المدقع بالإضافة للاستعانة بقصائد الشاعر التي استشف منها الناقد زين الدين ملامح شخصيته فرأى أن الشاعر أمل دنقل كان فوضوياً يحكمه المنطق ,صريحا وخفيا في آنٍ معا ,انفعاليا في جرأة ووضوح ,كتوم يملأ الأماكن سخرية وصخباً ,صخريا لكن من السهل إيلام قلبه ,كان الشعر عنده بديل الانتحار في عالم مرعب لهذا ظل يكتب حتى آخر أيامه في غرفة في معهد لعلاج السرطان ودليل ذلك قصائده المعنونة بالغرفة رقم 8 ,لقد ارتبط «دنقل»بعلاقات من نوع آخر مع كل من نجيب سرور وجابر عصفور ويوسف إدريس ,وسهيل إدريس ويوسف السباعي .
السمات الفنية في شعره
يقتصر الدكتور زين الدين في كتابه هذا على دراسة ملمحين أساسيين في شعر أمل دنقل وهما استلهامه التراث بالإضافة لاستحضاره الشخصية التراثية وكما يرى يميز الشاعر باستخدام أدواته التعبيرية واشتغاله الخاص على الصورة الشعرية والبنية الإيقاعية ومعمار القصيدة بحيث تصيب القصيدة غاياتها الفنية فكريا وجمالياً .وقد دلل الناقد زين الدين على كلامه هذا بدراسة مستفيضة لاستلهام شخصية المتنبي في قصيدة طويلة بعنوان:»من مذكرات المتنبي في مصر» استخدم فيها الشاعر شخصية المتنبي كقناع أوصل من خلاله مجموعة من المواقف والآراء بحيث حقن الشاعر أبطاله التاريخيين وعياً معاصراً وذلك مراعاة لحساسية المرحلة وخوفاً من سلطة الرقابة ,فقام بتضمين موفق لمجموعة من أبيات المتنبي مجرياً عليها بعض التغييرات فقدمت دلالات جديدة معاصرة فأفاد أمل دنقل من حبس كافور لأبي الطيب المتنبي وقسم القصيدة إلى أفكار وقسم النص إلى أيام ومشاهد دون أن يلجأ إلى تقطيعه ,لقد سحب دنقل الزمن مباشرة من القرن العاشر الميلادي إلى العشرين من خلال التحويرات البسيطة حيث بدل عبارة «أم لأمر فيك تجديد» الواردة في بيت للمتنبي إلى عبارة «أم لأرضي فيك تهويد» فأصابت القصيدة الكثير من غاياتها فكرياً وفنياً.
دنقل والفن التشكيلي
الجديد في دراسة الدكتور زين الدين عن شعر وحياة أمل دنقل أنه لفت عناية النقاد إلى وجود علاقة وطيدة بين أمل دنقل والفن التشكيلي فالشاعر في كثير من قصائده استخدم تقنية اللوحة في رسم قصائده بالكلام مستخدما اللونين الأبيض والأسود,مستخدماً قلم الرصاص أو قلم الفحم ليتمكن من حشد الدلالات الكامنة في وجدان الإنسان العربي حول هذين اللونين .
سأنهي هذا الموضوع بمقطع جميل اختاره الناقد زين الدين لأمل دنقل من قصيدة كتبها في غرفة العمليات يقول:في غرفة العمليات / كان نقاب الأطباء أبيض ,لون المعاطف أبيض / تاج الحكيمات أبيض , الملاءات ,لون الأسرة ,أربطة الشاش والقطن قرص المنوم ,انبوبة المصل كوب اللبن .كل هذا يشيع بقلبي الوهن ,كل هذا يذكرني بالكفن ,فلماذا إذا مت يأتي المعزون متشحين بلون الحداد ؟ هل لأن السواد هو لون النجاة من الموت ,لون التميمة ضد الزمن ،ضدَّ من ..؟ ومتى القلب في الخفقان اطمأن ؟!
شكرا للدكتور ثائر زين الدين على هذا الكتاب القيم الجديد ,وهو متوفر في معرض الكتاب في المركز الثقافي في بهو المسرح لمن يحب القراءة .
ميمونة العلي
المزيد...