أديبنا، ومعلّمنا، وروائي البحر وزُرقته ومراكبه وأمواجه العاتية، من مائه للماء..
ماذا أقول للقمر في محاقه؟ بل للقمر الذي تُحاكمه النّجوم في عليائها؟ ماذا أقول لربيع شبابك الذي أمضيتَه في معاناة مُوجِعة، وفي «مأساة»، كمأساة «ديمتريو»، في روايتك المُونِقة الموْسومة بـ «مأساة ديمتريو»؟ وتلك الحياة الصعبة المُعقّدة، التي عشتها في سنوات طفولتك، ومرحلة الشباب.. ثم ماذا أقول عن ربيع عمرك وخريفه؟ كيف أمضيتهما؟ ماذا حلّ بك بينهما، وخلالهما؟ ماذا أقول لربيع عمرك، وخريف أعمارنا؟ ماذا أقول للّون الأزرق في «المصابيح»، ذاك الذي كان جدار حماية من قصف طائرات الفرنسيين الجُبناء، على بيوتنا وأطفالنا؟ وهو اللون الدّال في البدء والمنتهى، على صفاء روحك والنّقاء؟ ماذا أقول للشّراع العنيد، الذي صبر وتحمّل أذيّات العاصفة الهوجاء؟ ماذا أقول للثلج الآتي منْ نوافذ بيوتنا والأبواب، يقضم صقيعُه حياتنا غصناً غصنا؟ بل ماذا أقول عن الويلات التي تعرض لها وطننا الكبير، بفعل المتآمر، الذي لا حدود لعنجهيّته وطغيانه وقسوته؟ ماذا أقول عن «بقايا صور»، هذه الرواية الجميلة الماتِعة، بصورها، بأحداثها، بلغتها الروائية المندّاة برذاذ البحر، وتوشِيحاته؟ ماذا أقول عن تلك الشّجرة الوارفة الظليلة «الأبنوسة البيضاء»، أليست سِفْراً من أسفار الرواية العربية، التي شحَّ زيتُها راهناً، ماذا أقول عن كتابك «الرّاصد»، وما جاء في أسطره وحكاياه، عن بطولات رجالاتنا الصامدين على الثغور، في وجه الصهاينة الأوْغاد؟ ماذا أقول عن «حكاية البحّار»، الذي تشاكسُه الأمواج، تتحدّى صموده، وهو يغالبها، فينتصر عليها، ليؤمّن لأطفاله وعياله، ما تجود به تلك الشّبكة المُبارَكة، أو تلك الصّنارة الرّمز، من سمك بحريّ طازج؟ أم أحدّثك، يا سيّدي، عن «حمامة زرقاء في السُّحُب»، تلك الرواية الشّائقة الماتِعة، لكأنّ الحمامة بلونها الأزرق، دعوة صارخة لنا، نحن بني الإنسانيّة، كي تكون قلوبنا ناصعة بيضاء، في زُرْقتها والصّفاء؟ أم أتحاورُ معك في روايتك الرائعة: «نهاية رجل شجاع»، وما تضمّنتْه من نَفَسٍ إنسانيّ عميق، وهي تتحدّث عن واحد من الصيّادين المَهَرَة، بقي شجاعاً، حتى حين صار جسده إلى عربةٍ من أربع عجلات، فظلّ بطلاً شجاعاً، حتى نهاية حياته، التي كانت مُفعمة بالتحدّي والعنفوان؟ هل تريدني، أيّها الكاتب الروائي المبدع، أنْ أخاطبك من قمّة الجبل، وأنت القمّة والذّروة؟ أم تريدني أنْ أحاورك من تحت أكداس الثلج، وأنت على درجة عالية من التمسّك بالنقاء الاجتماعي والحياتي، وبياض الدّاخل؟ فسيرتك الذاتية، تشير إلى رفضك التام للتحجّر، والجمود، والتجمُّد؟ وأنت الذي أبدعت للقرّاء العرب، من محيط الوطن لخليجه، رواياتٍ بالغة التأثير والدلالة؟ رواية البحر بامتياز، وأنت كاتبُ البحر المُجلّي، فرواياتك الجميلة تُرجِمت لعددٍ جمٍّ من لغات العالم؟ هل تريدني أنْ أسألك عن كتابك «هواجس في التجربة الروائيّة»، الذي كان فيه الكثير من الرّؤى والدّلالات والإشارات المُعمّقة، التي يستقي منها القارىء المُتأنّي المتعة والفائدة بآن، ويتلقّف منها الأديب الكاتب، الكثيرَ الجمَّ من معالم الطريق وصُواهُ، إذا ما أراد يوماً، أن يكون كاتباً روائياً متميّزاً، يُشارُ إليه بالبَنَان، بين أقرانه ولِداتِه، وأفراد مجتمعه؟ وحين ذهبت عيناي إلى كتابك الثمين «كيف حملتُ القلم»، فقرأته بتمعّن وتأنّ كبيرين، وجدت فيه مادّة دسمة غنيّة، ذات فحوى وفوائد شتّى، لِمن أراد أن يتعلّم من تجربة «مينه»، كيف يكون حَمْلُ القلم.. كم مزّقتَ من الأوراق والكتابات يا سيّد الكلم؟ كم مرّة تحدّاك القلم؟ كم مرّة خانتك الأفكار؟ كم مرّة أقسمتَ: إنك لن تمشيَ في هذا الدّرب الصّعب: درب الكتابة الوعِر، لأنه انتحارٌ معنويّ حقيقيّ، عن سابق إصرارٍ وترصُّد، لكنه في نهاية «القطاف» انتحارٌ ظريف، مُستحَبّ! أم تريدني، يا سيّدي، أنْ أسألك عن الشاعر التركي الكبير «ناظم حكمت»، الذي بقي حبلُ المشنقة معلّقاً بعنقه، مدة ثلاثة عشر عاماً، ولم تجرؤ الحكومة «المندريسيّة» يومها، على تنفيذ هذا الحكم الجائِر، وهو الشاعر الوطنيّ الثائر؟ فظلّ محارباً بِشِعره وقلمه وفكره وإبداعه وتفاؤله هذه الطغمة الحاكمة، حتى وهو رهن ذاك السجن الانفرادي المقيت، إلى أنْ أفرجوا عنه أخيراً.. بعد خروجه من زنزانته بأشهرٍ معدودات، تمكّن من مُغافلة حرّاسه السّبعة، وبمناصرة عددٍ من أصدقائه المخلصين، تمكّن من مغادرة بلده تركيا للمرّة الأخيرة يومها، إلى الاتحاد السوفييتي، وجسده الآن مدفونٌ في (مقبرة العظماء) بالعاصمة موسكو، كما أشرتَ في كتابيك القيّمين: «ناظم حكمت: السّجن، المرأة، الحياة»، و «ناظم حكمت ثائراً»! هل تريدني أنْ أسألك عن روايتك الماتعة: «الرّحيل عند الغروب»؟ وها أنت قد رحلتَ عنْ هذه الدّنيا الفانية، لكنك بالعرف الأدبي والنفسي والأمنيات، قد بقيتَ معنا برواياتك الجميلة المُونِقة، التي حفرت في عقولنا ونفوسنا وقلوبنا عميقاً ولا تزال، والتي أحببناها حدّ العشق والتّماهي والثّمالة.. رحمك الله، كاتبَنا العظيم، لقد غادرْتنا باكراً، قبل أنْ تشهد معنا رواية الانتصار المؤزّر على قوى البغي والاستكبار، وأنت الرّافض للظلم البشري والجبروت، حدّ الامتلاء.. أتراكَ أيّها الكاتب الكبير، قد رضيتَ عنْ هذه التّهويمات؟ أم أنّها لم تكن على مستوى الرّضا المطلوب؟ أقول بمحبّةٍ عالية: حسبي أنّي اجتهدتُ، و»لكلّ مجتهدٍ نصيب».. الرّحمة لروحك الطاهرة، وأنت الذي تركتَ حِرْفة القلم والرّواية والكتابة والإبداع، وارْتحلتَ باكراً جدّاً..
وجيه حسن