قصة …باقة ورد

وصل عبد الودود هذه المرة متأخرا نصف ساعة إلى المكتب، وهذا الأمر لم يحدث منذ تعيينه موظفاً في هذه الدائرة أي منذ عشرين سنة. وفور وصوله استقبل من قبل زميليه بحفاوة منقطعة النظير، تصفيق وأغان وكأنه عريس. توقف مستسلماً لهرج زميليه، ولتلك الرائحة الفواحة التي تملأ المكتب ، أمسك رمزي بيد عبد الودود ورفعها عالياً وقال له: طبعاً يحق لك يا عم أن تتأخر، وأن تتبختر مثل طاووس، طاووس؟ لا ليس طاووساً، لقد أصبحت هذه الكلمة مستهلكة جداً، مثل. .مثل نهر النيل، يا له من تشبيه، فمن يصله أكبر باقة ورد وأجمل زهور رأيتها في حياتي ، يحق له أن يفيض مثل نهر النيل. . وحدق عبد الودود إلى طاولته فرأى باقة الورد تأخذ أكثر من نصف سطح مكتبه، فيما تدخل الموظف الثاني هاني: طوّل بالك على الرجل، دعه يرتاح قليلاً، ودعنا نحتسي القهوة قبل أن تبرد. لكن رمزي لم يطوّل باله فعلا صوته ثانية: صباح الحب، صباح الورد، صباح العشق. .عشق الأربعين ما أصعبه وما أقواه.
جلس عبد الودود على كرسيه وقد شعر بموجة فرح وهو يتأمل باقة الورد ويشم الرائحة المنعشة.» يا له من يوم جميل»! حدث نفسه.
هذا المكتب الذي تشغله ثلاث طاولات ، يضم عبد الودود رئيساً له، وإلى يمينه هاني موظف منذ ثلاث سنوات ، وعلى يساره رمزي وقد عين منذ سنة وثلاثة أشهر.
قال هاني: هدئ من عيار موجتك، تتهم الرجل بالعشق، اسكت، إن مثل هذه الأحاديث تنتقل بسرعة البرق، ومن يدري ربما تصل إلى بيت الرجل قبل أن يصله هو، وتكون الكارثة. باقة ورد، وما هو الغريب في الأمر؟ ربما كانت هدية من أحد الزبائن رداً على خدمة أدّاها له. قال رمزي وهو يغمز بعينيه: أحد الزبائن، يرسل ورداً أصفر وأحمر. . ومنذ متى يا صاح تصل لرئيس مكتبنا هدايا؟
كان عبد الودود يسمع أحاديث زميليه، وهو غارق في رائحة الورد الجميلة، يشمها ويملأ صدره ويتلذذ. وقف الموظف رمزي واقترب من باقة الورد، أمسك البطاقة المعلقة عليها وقرأ بصوت مرتفع:» إلى رجل أحبه». واستدار نحو زميله وقال له: زبون قلت لي؟ وهز رأسه وأكمل: ماذا يغري النساء بالرجال الذين تجاوزوا الأربعين؟ بربك قل لي، ماذا يوجد في هذا الرجل كي يجذب امرأة؟ لديه بيت لا يتجاوز الستين مترا، في حي فقير، متزوج ولديه ولدان، يركض النهار كله ويوصله بالليل كي يسدد ديونه، يلبس طقمه شهراً كاملا قبل أن يبدله بالطقم الثاني الاحتياطي، يقضي يومه وراء الطاولة لا يرفع رأسه عن أوراقه. .بربك قل لي: هل هذا النوع من الرجال هو ما تطمح إليه النساء؟ وتعالت ضحكته وهو يربت على كتف الموظف التائه في باقة الورد يلمسها بأصابع ترتجف كأنه يخشى أن يكسر غصناً أو يمزق ورقة. قال هاني: حتى الآن لا أرى أي دليل لما تقوله، فصديقنا لم يهرب يوماً من وظيفته، ولم يتأخر يوماً عن دوامه، ولم أر امرأة تزوره، ولم أسمع هاتفه يرن ..وأنا أرافقه بباص الشركة حتى البيت، ينزل قبلي، فكيف يأتي العشق يا عبقري زمانك؟ ضحك رمزي: تصلح أن تكون رجل مهم ، يا لك من خبير في شؤون الحياة، قل لي بربك هل يحتاج العشق لقرار من هيئة الأمم كي يحل ضيفاً على قلب رجل؟ عندما يقرر أن يأتي لا ينتظر أحداً ولا يحترم أحداً، يأتي في الهواء، إذا أراد، فمن يمنعه؟ واليوم ماذا فعل عاشقنا، ألم ينزل من الباص قبل أن نصل الشركة ، من يدري ربما ذهب يحتسي فنجان قهوة عند الحبيبة، آه ما أطيب قهوة الحبيبة، ترى هل وضعت أصبعها في الفنجان، وهل خجلت أن تخبرها أن السكر يرتفع معك ؟ وانتظر أن يعلق الموظف بكلمة لكنه كان يبتسم، ويداعب الورد ويشمه.
دخلت سكرتيرة المدير تحمل مصنفاً، وإذ رأت باقة الورد، صرخت: يا الله، ما هذا؟ وركضت نحو الباقة وحملتها: أكبر باقة ورد أراها، ما أحلاها، وما أذوق الشخص الذي أرسلها، وقرأت البطاقة: « إلى رجل أحبه». .يا سلام، من العاشق هنا؟ ورد الموظف هاني: لا عاشق ولا من يحزنون، مجرد باقة ورد هدية. وقال رمزي وهو يضرب كفا بكف: مجرد باقة ورد! لم أر رجلا يغير أكثر من هاني، قتلته الغيرة يا آنسة إلهام، لا يحتمل عقله أن ترسل باقة ورد إلى رجل تجاوز الأربعين عاشق الأربعين بالله قولي يا عزيزتي، ماذا يحلو للنساء بالرجل الذي تجاوز الأربعين؟ ابتسمت: الكثير، الكثير. شعره الأبيض، وربطة عنقه الرمادية، ماذا تريد أيضاً، صمته. .كانت تتحدث عن صفات رئيس المكتب وعيناها ترنوان إليه كعيني ثعلب.وقالت: لم أكن أظن أنه يخبئ العشق تحت قميصه، طالما فكرت كيف يقضي هذا الرجل الغارق بين الأوراق حياته؟ سألت نفسي: ألا يفكر يوماً باللهو؟ يبدو أنه كان يلهو دون أن ندري. عندما أخبر المدير سيقع عن كرسيه من شدة الضحك، دائماً ما كان يصفه بالرجل المعلب ويقول: مثل هؤلاء الرجال ينجحون بعملهم.
سأثبت له بطلان نظريته، وصحة نظريتي التي تقول: من يملأ قلبه بالفرح هو من يقدر على النجاح، والدليل إن نجاح رئيس المكتب المدلل عنده ناتج عن عشقه وليس عن جموده كما كان يظن. تركت باقة الورد على الطاولة، ووضعت المصنف أمام الموظف، وغادرت المكتب وهي تفرقع ضحكة كبيرة، وتتمايل مثل زنبقة وكأنها هي المعشوقة.
وقبل أن يفتح الموظف المصنف كي يوزع العمل على زميليه، فكر بالكم الكبير من البهجة الذي حققته له هذه الباقة من الورد، وحدث نفسه: إن التأخير عن الدوام نصف ساعة والذهاب إلى بائع الورد والطلب منه أن يرسل باقة الورد إلى مكتبه كانت فكرة رائعة، خلقت جواً من السعادة عمت المكتب كله، ووهبته طاقة إيجابية ،..ليس أجمل من أن يكافئ الإنسان نفسه بين الحين والآخر، خاصة عندما لا يجد أحداً يبالي به.
د . جرجس حوراني

المزيد...
آخر الأخبار