مرضت أم صالح مرضاً شديداً ولم تعد قادرة على القيام بأعمال المنزل ، وكانت ابنتها جميلة طالبة جامعية في السنة الثانية ، تولت جميلة كل هذه الأعمال ،لأنها الشابة الوحيدة لأمها . كانت تقوم على خدمة أمها في الليل والنهار ، تستيقظ في الصباح الباكر لحلب البقرتين وتقوم بتنظيف الحظيرة ، ثم تبيع الحليب و اللبن لتنفق على البيت ، كان صالح أخوها يزور أمه دون أن يقدم لها ولأخته أي مساعدة تعينهما على الحياة , وكان يأتي بزوجته وأطفاله ليكونوا عبئاً على أمه وأخته حيث تقوم جميلة بإعداد الطعام والشراب لهم جميعاً وليس هذا فحسب . بل حاول صالح أن يثني أخته عن متابعة الدراسة في الجامعة بحجة أن هذا يؤثر سلباً على صحة والدته التي لا ينبغي أن تُترك بمفردها ، و كان يصد عنها كل عريس يتقدم لخطبتها مدعيّاً فيه الكثير من العيوب مخافة أن تتزوج وتترك له أمه المريضة ليتولى أمرها . وقفت جميلة في وجه أخيها قائلة : سأكمل دراستي لأنها لا تؤثر أبدا على وضع أمي و إ ن كان هذا لايعجبك ، خذها لمنزلك واخدمها بنفسك غضب صالح من أخته كثيرا وخرج من البيت وهو يتلفظ بألفاظ سوقية تاركاً أمه هي الأخرى تتوعد وتهدد ابنتها بأنها ستغضب عليها إن لم تعتذر …له كانت جميلة اسما على مسمى , جميلة الطلة ممشوقة القوام , ذات شخصية منفردة , كانت محط إعجاب شباب القرية ، ولكن أخاها صالح كان لها بالمرصاد , فهو لا يفكر إلا أن تستمر جميلة في خدمة أمه فقط . بالرغم من عدم تقدم صحة أم صالح ، إلا أنها كانت سليطة اللسان ، قاسية الكلام ,الأمر الذي يجعل جميلة تستغرق في بكاء طويل نادبة حظها العاثر من أمها ومن أخيها صالح . . ماتت إحدى البقرتين وتم إلقاء اللوم على جميلة ، وأن السبب في ذلك دراستها وإهمالها لواجباتها المنزلية. تخرجت جميلة من الجامعة بعمر الثلاثين في حين أن مثيلاتها تخرجن وتزوجن وأنجبن الأولاد وفي إحدى الليالي اتصلت جميلة بأخيها صالح قائلة: أسرع وتعال لننقل أمنا لمشفى قريب إنها متعبة جدا .تحجج أنه في عمله ولن يستطيع المجيء ، فغضبت الشابة وسط أنين الأم التي كان الدمع يملأ مقلتيها الغائرتين ، بسبب الألم وقالت لأمها : لاتخافي لقد اتصلت بجارنا عبد الرحمن وسينقلنا للمشفى. في الطريق ، كانت جميلة تجلس بجانب عبد الرحمن ، أما أمها فقد كانت ممددة في المقعد الخلفي من السيارة متعبة ، فطلبت من عبد الرحمن أن يساعدها في بيع البقرة الثانية لأنها لا تملك المال الكافي لسد أجرة المشفى الخاص والدواء فقال لها : سأشتريها لأني أبحث عن بقرة جيدة … جلستْ على مقعد الانتظار في ممر المشفى ، تنتظر خروج الطبيب أكرم من غرفة العناية المشددة حتى يطمئنها على أمها ، فنظر إلى عينيها الملهوفتين قائلا : أمك مريضة جدا وقلبها متعب جدا كان الطبيب أكرم الأربعيني يراقب الشابة التي لم تتزحزح من المشفى وكان يسترق النظر إليها وهو يراها أحيانا تبكي خلسة محاولة أن تخفي حزنها فقال الطبيب : نحن نقوم بكل ما نستطيع والباقي على الله وفي اليوم الأخير الذي وصل فيه صالح للمشفى ، كان الغضب يتطاير من عينيه ، فصاح بأخته قائلا : كيف تبيعين البقرة من دون أخذ إذني بالموضوع ؟!! فقالت له والدموع تملأ عينيها : إن كنت تريد البقرة خذها ولكن ادفع حساب المشفى وثمن الحقن والأدوية والدم الذي طلبناه لها وفجأة رأت جميلة الممرضة تخرج من غرفة العناية المشددة مسرعة، وسألتها عن أمها ، ولكن الممرضة لم ترد عليها، بل عادت ومعها الطبيب أكرم الذي دخل غرفة العناية المشددة، وقفت جميلة التي أعياها التعب وقالت : يارب أستر…. خرج الطبيب بكل هدوء ونظر لصالح وجميلة وقال : رحمها الله لم تكن جميلة تعرف أن أمها ستترك هذا الفراغ وهذا الحزن في قلبها ، و ماعادت رأت أخاها صالح إلا عندما أتى إليها قائلا : لقد عرضت البيت للبيع وسيشتريه الدكتور أكرم ، فقالت له : وأنا ؟ أين سأسكن ؟ فقال: سأشيد لك غرفة على سطح بيتي تكون لك وستبقين في منزلي . فلا يجوز أن تسكني وحدك لاحظ الطبيب أكرم حزن جميلة الشديد فهمس لها قائلا بعد أن استغل انشغال أخيها بعّد النقود : أتمنى أن تبقي في البيت فاستغربت قائلة : كيف ذلك وأنت تشتري البيت منا؟ قال لها : أتمنى أن تقبلي بي زوجا لك إن لم تكوني مرتبطة….!! اعتلت الدهشة وجهها الجميل وقالت له : أنا ؟ لماذا تختارني أنا ؟ أجابها : أحببت لهفتك على أمك أحببت ضجيجك الهادئ في داخلك ، أحببت حنانك على والدتك ، أحببت تحملك أنانية أخيكِ ، أنت إنسانة عظيمة لأول مرة تسمع جميلة كلمة مديح في حقها، فاغرورقت عيناها بالدمع وراحت تراقب الطبيب وهو يقترب من صالح ويخبره بما يريد والذي لم يرفض وهو يسترق النظر لأخته التي كانت تراقبه .
عبير منون
المزيد...