آثارها شاهدة على حضارتها .. تــدمر والقلعـة و أسوار المدينة دلالة على أهمية فن العمـارة في حمـص

تمسك أبناء حمص بلغتهم العربية الآرامية في أحاديثهم و مراسلاتهم و تعلموا اليونانية التي ساعدتهم على الاطلاع على الفكر الإغريقي كما ذكر الدكتور المهندس بسام فريز مهنا .. وأضاف : كما تعلموا اللاتينية التي كان يعتمد عليها في الدواوين الرومانية و كل ذلك يوضح إسهام أبناء حمص في مختلف ميادين الثقافة في العصر الهلنستي و الروماني و كان أشهر أعلامها الفيلسوف الجمالي ( لونجبينوس ) الحمصي الذي ولد في حمص عام 213 م في بيئة أحسنت تربيته و زادت معرفته بفضل أساتذة مشهورين مثل (آمونيوسساكاس) من المدرسة الأفلاطونية الحديثة, وبعدما تمثل (لونجبينوس ) الثقافة التي تلقاها , وغدا زعيم مدرسة ثقافية وكان من تلاميذه الفيلسوف بورفير.

وقد اشتهر بمحاضراته القيمة التي ألقاها في أثينا و سورية ،و إن سعة اطلاعه و ثقافته جعلا ملكة تدمر زنوبيا تختاره كرئيس وزرائها و كبير مستشاريها فكان فعلا خير وزير وحكيم و مستشار و خبير وقف إلى جانبها في صمودها بوجه الرومان الذين بعد أن قضوا على حكم زنوبيا اتهموه بمساعدتها في حروبها ضدهم وحكموا عليه بالموت فاستقبل لونجبينوس الموت بشجاعة الإنسان العظيم المتمسك بمثله العليا الإنسانية ومن مؤلفاته : (في الحكم الصالح ) و ( في الخطابة) و اشتهر لونجبينوس الحمصي كناقد أدبي وفني و مفكر جمالي ينسب إليه بعضهم كتاب ( في السمو ) الذي تأثر به الأديب الفرنسي الكبير بوالو فترجمه إلى اللغة الفرنسية.
وهناك الطبيب ( آرخيجنيس ) الحمصي الذي اشتهر بتخصصه بالأمراض العقلية و ممارسة مهنة الطب في روما التي هاجر إليها وأقام فيها وقد ذكره شاعر الهجاء اللاتيني (جوفنال65 – 128م) ومن أشهر مؤلفات آرخيجنيس كتاب في النبض شرحه فيما بعد الطبيب المشهور جالينوس ،و هناك اللغوي الحمصي تيرانيو و اجتهاداته الفقهية التي توارثتها أجيال الحقوقيين و أسهمت في شهرته.
روائع فنية
وأضاف الدكتور مهنا: و إذا كنا لم نعرف أسماء أعلام فنون العمارة و النحت والحفر و الفسيفساء و الرسم والخط وعمل الفخار و الخزف والزجاج و العاج والعظم و الحلي الذهبية , فإن روائعهم الفنية تدل على مهارتهم اليدوية و خبرتهم المهنية و ثقافتهم الجمالية التي تلبي رغبتهم في رؤية الجمال و إبداعه و التعبير عنه وفي الواقع تعتبر الحلي الذهبية المكتشفة في تل أبو صابون من أجمل ما أبدعه فن الصياغة في نهاية العصر الهلنستي و بداية العصر الروماني و تضم هذه الحلي الذهبية خواتم و أساور و وريقات ذهبية مختلفة أضف إلى ذلك الخوذة الفضية و الحديدية المشهورة ،و تتميز الخواتم المكتشفة بتنوعها فهناك خاتم ذهبي مرصع بفص عقيق نقش عليه مشهد رب الفنون والموسيقا (آبولون ) بأسلوب يبدو فيه ( آبولون ) ينظر إلى اليمين إذا وقفنا في جهة اليمين وينظر إلى جهة اليسار إذا وقفنا في جهة اليسار , وهناك خاتم زين أعلاه صورة نافرة جانبية تمثل رأس امبراطور أو حاكم محلي ..
وتعتبر الأساور المكتشفة ذات أهمية فنية و قيمة جمالية فهناك سوار مؤلف من قطع لكل منها شكل حرف S و مرصعة بأحجار الزمرد التي كان القدماء يعتقدون أنها تجعل الإنسان ينعم بأحلام سعيدة ..
وهناك سوار أبدعه ذلك الفنان الصائغ بطريقة تقنية و زينه بـأحجار السيلاني. وتتميز الوريقات الذهبية المكتشفة بتنوع أشكالها ( مستديرة ومستطيلة ) و مواضيعها: رأس ميدوز , ربة نصر جنائزية ترفع بيدها إكليلاً , آبولون يمسك آلته الموسيقية ، وهناك عصبات ذهبية مضغوطة تمثل غصناً نباتياً كل ذلك يفسر أهمية فن الصياغة في حمص في العصر الهلنستي و الروماني ،ويوضح أهمية اعتقاد القدماء بأن الذهب معدن الآلهة لأنه المعدن الوحيد الذي لا تؤثر فيه العوامل المختلفة، و إن من يتجمل به ينعم بما يحلم به من سعادة وخلود.
جمال العمارة
كما اشتهرت حمص بجمال عمارتها المدنية والعسكرية والجنائزية وتدل صورة معبد الشمس على جمال ذلك المبنى الديني بأعمدته الأمامية الستة و يرتفع مبنى هذا المعبد عما حوله ببضع درجات، و يبدو أن جمالية معبد حمص لا تقل أهمية عن جمالية معبد بعلبك و تدمر. وهناك ملعب حمص كانت تقام فيه المباريات في مختلف المناسبات و الجدير بالذكر أن ملك تدمر ( أذينة ) حقق انتصاراته مع ابنه ثم حضر معه عدة مباريات في ملعب حمص الذي اغتاله فيه ابن أخيه عام 267 م. ومن وجهة نظر “الدكتور مهنا ” , لو كان الملك ( أذينة) موجوداً عندما هاجم قائد الجيش الروماني ( أورليان ) تدمر لما سقطت عام 271 م وذلك للأسباب التالية : الخطة القتالية التي اتبعتها (زنوبيا ) هي الدفاع و ذلك بحفر الخنادق و بناء الأسوار رغم أن مستشارها لونجبينوس و قادة جيشها , أكدوا لها أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع بحيث يتم نصب الكمائن على الطريق الذي سلكه أورليان و تشتيت وضياع جيشه في الصحراء قبل وصولهم إلى تدمر وهم أبناء المنطقة ويعرفونها جيداً , حتى أن أورليان تفاجأ بعدم وجود أي مقاومة على الطريق التي سلكها لحين وصوله إلى أسوار تدمر, حيث أقام معسكره و استخدم آلات المنجنيق في قصف المدينة وهدم أسوارها و حصارها و تجويع أهلها و فرار زنوبيا من خلال سرداب تحت الأرض يقود إلى باب خلفي خارج المدينة باتجاه نهر الفرات مع حماية أحد الفرسان الشجعان و ذلك لكي تطلب النجدة من الفرس أعداء زوجها أذينة , وعندما سمع جنودها بفرارها انهارت روحهم المعنوية مما سهل للرومان دخول المدينة وقتل معظم القادة وخيرة الفرسان و الجنود و سرقة المدينة و تدميرها.
أمر أورليان بمطاردة زنوبيا فوجدها الجنود الرومان على ضفاف نهر الفرات و هاجمهم حارسها الشخصي بمفرده فتم قتله و أخذوا زنوبيا أسيرة إلى روما حيث عاشت حتى وفاتها هناك , فهي لم تتجرع السم كما يعرض في بعض الأفلام ولكن الشيء الأكيد قوة إرادتها و عزيمتها و شجاعتها في تحدي روما و فشلها في قيادة المعركة.
تشييد أجمل القصور
كذلك تذكر النصوص التاريخية أهمية القصر الملكي الذي شيده ( شمسيجرام الثاني ) في ضاحية حمص الغربية و كذلك مدى ازدهار اقتصاد حمص لوقوعها على طريق الحرير العالمية مما أتاح لأبناء حمص إمكانيات مادية ساعدتهم على تشييد أجمل القصور والدور التي تدل على أهمية العمارة المدنية وخبرات المهندسين المعماريين في حمص آنذاك..
وتدل قلعة حمص و أسوار المدينة على أهمية فن العمارة العسكرية في حمص و مدى اهتمام أولئك المهندسين بتشييد القلعة المنيعة و الاسوار ذات الأبواب الجميلة و المؤدية إلى الطرق الرئيسية الخارجية .
وإن اهتمام القدماء بدفن الموتى في مدافن مناسبة أدى إلى ظهور فن العمارة الجنائزية في مجتمع يعتبر الموت بمثابة حياة جديدة في عالم ما بعد الحياة و يحرص على تشييد المدفن كمقر أبدي تحفظ فيه مع الموتى ممتلكاتهم , كالتي اكتشفت في ( تل أبو صابون) وقد وجدت مدافن تحت الأرض على عمق 10 -12 متراً في حي الحميدية.
روائع فن النحت
وتابع الدكتور مهنا: استخدم الفنان الحمصي في العصر الهلنستي و الروماني مختلف المواد المتوفرة في بيئته ( غضار , حجر , برونز , عظم , عاج ) في إبداع روائعه النحتية و إن التماثيل الفخارية الصغيرة المكتشفة في حمص تؤكد أهمية الإرادة الفنية القادرة على جعل التراب العادي يصبح عملاً فنياً يثير الإعجاب و الغبطة ولا شك أن تمثال ( كورة ) الخزفي المموه بالمينا يعتبر من روائع فن النحت الخزفي في القرن الأول الميلادي ويتميز بجمال التكوين الفني و أهمية موضوعه الميثولوجي وقوة التعبير في ملامح الوجه الإنسانية . كما أن تمثال فينوس البرونزي يجسد المثل الأعلى للجمال النسائي ويدل على أهمية النسبة في عصر كان فيه معيار الفن يعتمد على القياس الدقيق و اعتبار الانسان المثل الأعلى للجمال، و إن تمثال ربة الحظ و السعادة تيكة من الذهب يدل على مدى اهتمام أولئك الفنانين في إبداع تماثيلها لتلبية طلبات مجتمعاتهم الجمالية والفكرية، و يعتبر النصب الحجري البازلتي الكبير من روائع فن النحت المحلي في القرن الرابع الميلادي ويمثل قائداً أو حكيماً محلياً واقفاً متدثراً بملابسه الرسمية ، كما أن تمثال السبع من الحجر الجيري ( الكلسي ) المكتشف في حي الخالدية يعتبرمن روائع فن النحت في القرن الثالث الميلادي وقد اكتشف دياميس حمص توابيت فخارية مغطاة بطبقة كلسية و مزينة برسوم جدارية جميلة تدل على أهمية هذا الفن و الجدير بالذكر أن توابيت دياميس حمص مزينة برسوم ذات مواضيع فنية ومفردات رمزية و ألوان محلية استخدمت بذوق فني..
فن الفسيفساء
وتعتبر لوحة الفسيفساء المكتشفة في دياميس حمص من روائع فن الفسيفساء في القرن الرابع ميلادي وتمثل كاهنين شابين بملامح جميلة , و إن الدبابيس العاجية والعظمية المكتشفة في مقبرة الخالدية ذات أهمية فنية وجمالية وتدل على مدى اهتمام نساء حمص بدبابيس الشعر في تصفيف شعورهن و الظهور بمظهر الأناقة و الرشاقة مما يزيد في جمالهن في عصر قال فيه أحد الأدباء : ” الكواكب والنجوم تزين قبة السماء و الشعر يزين رأس المرأة و يزيد جمالها و فتنتها “
الصناعة الفنية في حمص
وتدل الأواني الفخارية المختلفة و المكتشفة في مقبرة الخالدية على أهمية هذه الصناعة الفنية في حمص في العصر الهلنستي و الروماني،وعلى مدى حرص ذلك الصانع على إبداع أجمل الأشكال المبتكرة و المتميزة بفائدتها وجمالها.
وتدل الآثار الزجاجية العديدة المختلفة على أهمية هذه الصناعة الفنية و ممارسة ذلك الصانع الفنان مختلف التقنيات الزجاجية في إبداع روائعه من الزجاج المعتم أو الشفاف أو الخمري اللون و إن مجموعة القوارير من الزجاج الأبيض تعتبر من أجمل ما أبدعته هذه الصناعة الفنية , لبعضها شكل وجه إنسان جميل الملامح وهناك قارورة زجاجية صغيرة ذات لون حليبي تمثل مشهد مركب تجاري بحري فينيقي و تعتبر من أندر أنواع الزجاج و الجدير بالذكر أن هذه المجموعة اكتشفت في « تل النبي مندو » و إذا كان المنقبون لم يعثروا على ملابس قديمة في حمص فإن المنحوتات وصور الاباطرة من حمص ( السيفيريين) تدل على مدى اهتمام أبناء حمص بالمنسوجات و الملابس الجميلة ولا شك أن موقع حمص على طريق الحرير و توفر المراعي الكثيرة أدى إلى وفرة المواد النسيجية الصوفية والحريرية، كذلك نقود حمص التي تمثل صور أباطرتها السيفيريين و معبد الشمس في حمص تدل على أهمية فن صك النقود لتلبية المتطلبات الاقتصادية المختلفة والجدير بالذكر أن المتحف الوطني بدمشق يحتفظ بدينار ذهبي وحيد من نوعه في العالم يمثل الإمبراطور الحمصي السيفيري« إيلا جبال».
أخيراً
إن دور حمص الحضاري يفسر قول الشاعر اللاتيني الهجاء جوفنال : إن نهر العاصي يبدو كأنه يصب في نهر التيبر .. معبراً بذلك عن تأثير حمص في حضارة الرومان..

المزيد...
آخر الأخبار