خــُلِـقتْ لتكــونَ محترَمـــة

الحياة التي خُلقت لتكون محترمة، حين تفقد سحرها وجاذبيتها، تتحوّل إلى فخّ، يبدو أن الفقر غير الطّاحن وحده لا يجعلها فخّاً بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الفقير لا يقطع الأمل حتى حين تكون الآمال أحلاماً بعيدة،
يوم كانت الحياة خاتماً في يد الأمراء، والسلاطين، والخلفاء، كان المزنوق ينتظر ضربة حَظ.
ربما يلقاه أمير متنكّر،
قد يصيد سمكة في بطنها ياقوتة تليق بتاج السلطان،
قد تصيب التفاحة التي تقذفها الأميرة رأسَه،… عشرون ( قد ) تتلقّف أمانيه، ولا شيء يجعله يرى الحياة فائضة، وغير لازمة، بل هي جديرة بأن تعاش. مدهش سر هذه الحياة،!!
لحظات القتام، والشدة، والضنْك هي الغالبة، ونتمسّك بها،
لحظات تجعلنا نبحث عن الموت ونستعذبه. حين يصبح العذاب لا يطاق، جسديّاً كان أم نفسياً، آنئذ.. يصحّ فينا القول الشعبي: “يبحث عن الموت فما يلاقيه”…
حتى حين لا تمتلك غير ( البِرْطام ) فأنت متمسّك بالحياة، ربما لأن الحياة معروفة، مختَبرَة بالنسبة لنا، أما ذاك الذي وراء الحياة فهو شيء آخر،شيء لا نعرفه، وكل الذين يرسمونه لك على صورةما، يستندون في ذلك إلى أفكار يؤمنون بها بحرارة باذخة، أو بحرارة هي بين الفُتور والجيَشان …
لأنّ الحياة هي ماوُهِبنا ، بجلال ، وتميّز ، وأُضيفَ إليها ، أنّنا ، كبشر ، وحدنا العقلاء فوق ظهر هذا الكوكب ،فإنّ الحياة زائد العقل ، .. الحياة ، بكلّ مافيها من مُتع ، ولزائذ ، على قلّتها ، زائد العقل ، بكلّ مايقدّه من قدرات على الإدراك ، .. تجعل الحياة ، غالباً ، مقبولة ، حتى حين لانملك غير البرطام ،
تسألني ماهو البِرْطام ؟
حاضر ،
بَرْطَمَ الرّجلُ : أدلى شفتيه من الغضب ،
و.. تَبَرْطَمَ : انفتخَ غضباً ، وغيظاً ، لذا يقول أبناء عمومتنا في مصر “إنتَبِتْبَرْطمْبإيهْ “ ؟ ، أي لماذا أنت غاضب ، واللفظة محرّفة قليلة ، مستعملة في ريف سوريّة ، وفي بعض مدنها ، ولدى البدو ، بمعنى (الشّفة) ، ويسمّونها ( ألْبَرْطُوم) بدلاً من ( الْبُراطِم) ،
أولا ترى أنّ معنى اللّفظة أكثر شفافيّة ، وأسهل نطقاً ؟
حتّى حين لانمتلك غير ( الَبَرْطوم) كذلك البدويّ الذي حميَتْ عليه شهوة التّدخين ، وليس في جيبه سيكارة ، .. فإنّنا نحبّها ،
أحد البدْو ، وهم شديدو الحبّ للتّدخين ، وقد لايشبههم في ذلك سوى الهنود الحمر الأوائل ، .. كان يسير على طريق شبه منقطعة، اشتهى سيكارة ، وهو لايملكها ، اشتدّ عليه الحرّ ، وبُعْدُ المسافة ، وشهوةُ التّدخين، شاهدَ ، عن بُعْد زولاً يتحرّك ، حين اقترب بعض الشيء، كان أوّل ماشاهده مفَصَّلاً من جسد ذلك الرّجل دخانُ سيكارته ، اشتدّتْ لهفتُه ، وخطا نحوه بخطوات واسعة ، وكعادة رجلين يلتقيان ، في بلادنا ، على طريق :
السّلام عليكم
وعليكم السّلام ورحمة اللّه
مَعكَ ورقةُ سيكارة ؟
بلي ، / أي بلى ،
و.. فتح علبة دخانه ، وتناول عدداً من أوراق السيكارة ، ومدّ يده بها إليه ، أمسَكَ الورقة بحرج لايخلو من عذوبة وقال :
عندك حَشْوتها ؟
فتح الرّجل العلبة ثانية ، وابتسامته تسبقه ، وأخذ منها مايكفي لحشوِها، مَدَّد الآخر الدّخان على طول الورقة ، ودرَجَها ، وبلّل طرفيها بريقه ، ولصَقها، وحين أصبحت جاهزة للإشعال نظرَ إليها وإلى الرّجل ، وقال :
– معك شعلتها ؟
أدخل الآخر يده في جيبه الواسع ، وأخرج قدّاحة أشعلَها ، وقرّبها من فم المتعطّش ، المُفلِس ، مجَّ الآخر نفَساً عميقاً ، ونفخ بتلذّذ وهدوء ، ضحك الآخر ، وسأله :
– ماالذي عندك من آلة التِّتِن ( الدّخان ) ؟!!
أجابه :
– واللّه ماعندي غير براطمي ،
ويُضرب المثل بولع البدو بالدّخان ، فقد قيل أمام بدويّة أنّ فلانة ماتت، فقالت باستنكار :
“ عَليشْ تْموتْ ؟ رِجلْها عندها ، وتِتنْها مليان جرابْها ، وقهْوتْها جِدّامها ، عزّ اللّه إنّها فسجانَه “ ، أي : لماذا تموت ؟ رجلُها عندها ، ودخانها ملء جرابها ، وقهوتها قدّامها ، ؟!!
ترى هل في وعي تلك البدوية أنّ الأشياء الأساسيّة، حين يتحقّق وجودُها، فلا مبرّر للموت؟
هل اعتقدتْ ذات لحظة أنّ فقْر الحياة ، ومرارتها ، هما اللذان يستدعيان الموت ، برجاء غير مرغوب ؟
إنّها الأمنية المتحقّقة في ثوبها الإحتجاجي ،
هي تحتجّ على الموت لأنّه يداهم امرأة ، بين يديها كلّ ماتريد : الرّجل ، والقهوة المرّة، والتّتن ، ولعلّها كانت تسخر بمرارة من الحياة التي يُطفئها الموت في ذروة توهّجها ، وحين يتجسّد شيء من الحلم فيها ،
يروون ، في هذا السّياق ، أنّه كان من المستحيل أن تمدّ يدك بسيكارة ، ويعتذر عن ذلك ، وقليلون هم الذين يعرفون أنّ نساء البدو يدخّنّ قبل دخول هذه العادة إلى المجتمعات المدنيّة ، والرّيفيّة ، والعجائز منهنّ يضعن الدّخان في غَلْيون ( بايب) ذي ساعد طويل .
عبد الكريم الناعم

المزيد...
آخر الأخبار