كثر الحديث في تراثنا الشعبي عن الجار وحقوقه على جاره حتى أن البعض فضله على الأخ أو الأهل البعيدين ،لأن الجار قد يساعد أو ينقذ جاره ويلبي حاجته وقت الضيق أكثر من أخوه البعيد الذي قد يكون في وضع أو ظرف لايسمح له بتقديم المساعدة وإن كان يرغب بذلك .
ولعل هذا المثل قد شاع استخدامه حين لم تكن وسائل الاتصال والمواصلات قد تطورت إلى هذا الحد لذا كان الجار المحب والصادق سندا حقيقيا لجاره فالجار لايستغني عن جاره وكما قيل « الجار للجار وإن جار ».
وتنبع ضرورة الإحسان للجار ومراعاة شعوره من الاشتراك في أكثر من أمر يحتاج إلى التعاون من أجل الحارة ، من هنا قيل « جارك اللي بتصاحبه كل يوم كيف بدك تقابحه ؟» .
أيضا من مصلحة الجيران الحفاظ على الاستقرار والأمن . حتى إذا نام الجار أو سافر خارج البلد يكون مطمئنا نفسيا أن جاره سيؤمن له الحماية والرعاية المطلوبة في غيابه . والجار العاقل هو الذي يغض الطرف عن هفوات جاره حرصا على إبقاء العلاقة جيدة بينهما وقد ذم الناس الجار السيء ووصفوه بشتى الصفات السيئة فقالوا « كومة حجار ولاهالجار » .
وهناك الكثير من القصص والحكايا التي تمجد العلاقة بين الجيران وذم الجار السيء الذي يؤذي جاره.
من العادات الجميلة وربما الرائعة التي مازال الناس يسهرون عليها منذ القديم وحتى يومنا هذا هو أن الساكن القديم يستقبل الساكن الجديد وخاصة المجاور له في اليوم الأول الذي يحل فيه في الحي بحفلة يقيمها خصيصا له وهكذا يفعل العديد من الجيران الملاصقين له أو المواجهين لمنزله الجديد ويدعى لهذه الحفلة أهل الحي للتعارف، ومقابل هذه الحفلة وهذه المشاعر النبيلة فإن الساكن الجديد يقيم حفلة أو وليمة لجيرانه تعبيرا منه بالسعادة والود لجيرانه وإشارة إلى أنه مستعد لحفظ حقوق جيرانه وأنه أصبح واحدا منهم يفرحه مايفرحهم ويسره مايسرهم ويسيئه مايسيئهم وتقدم الهدايا الرمزية والتهاني والتبريكات بالبيت الجديد وبعد ذلك يبدأ الجيران بتبادل الزيارات تعبيرا منهم أنهم يريدون له السعادة والأمان بينهم إضافة إلى أنهم لايريدون له الشر أو إثارة المشاكل والقلاقل .
وتستمر الحياة على طبيعتها بين الجيران القدامى والجدد قائمة على حسن الجوار والحرص على التعاون بينهم .
« جار الحجر» قد يكون هذا التعبير غريبا بعض الشيء عن سمعنا وثقافتنا المعاصرة لكنه كان قبل عدد من السنين اصطلاحا واسع الانتشار حيث اعتاد الناس في الوسط الشعبي ببلاد الشام أن يطلقوا هذا المصطلح على من يبني بيته من الحجر بجوار سكان قدامى بعضهم يسكن الخيام وبعضهم يسكن بيتا من حجر ،ويدل هذا المصطلح أن الساكن الجديد هو جار دائم وله حقوق كثيرة على جيرانه الذي سكن بينهم وهو يختلف عن الجار الذي يسكن مؤقتا كمستأجر أو يسكن بيوتا مؤقتة كالخيمة وغيرها .
أما الحقوق المتعارف عليها أن أملاك الجار وماحوت داره من متاع وأثاث وأموال وغير ذلك هي أمانة في عنق جاره إذا غاب عن البيت .
وقد بلغت كراهية الناس في الوسط الشعبي لمن يعتدي على جاره أو أملاكه حدا شديدا هذا ماعدا باقي العقوبات المادية والمعنوية التي تلحق به .
مهما قيل عن حقوق الجار على جاره فإن ذلك ينبع من طبيعة المجتمع وثقافته وعاداته وتقاليده ، من هنا نرى أن النظرة إلى حقوق الجار على جاره قد تختلف من عصر لآخر ومن مجتمع لمجتمع وقد تختلف النظرة في المجتمع الواحد بين بيئة وأخرى ،أو بين حضر ومدينة ففي المجتمعات القديمة كان العرب يولون مسألة الجيرة مكانة عالية جدا لدرجة أن الإنسان في وقتنا الحاضر قد يصاب بالاستغراب من وقوعها وهناك الكثير من القصص التي تؤكد ذلك وهذه قصة منها : ( أصاب أحد الناس ضائقة مالية فأراد أن يبيع داره ليحل مشاكله وعندما جاء المشتري ودفع له المبلغ المطلوب قال له صاحب الدار هذا المبلغ ثمن البيت لكنك لم تدفع ثمن جيرة جاري فلان ، قال له وماثمنها ؟ فذكر صاحب البيت مبلغا كبيرا تعذر على المشتري دفعه فانصرف وبعد فترة سمع جاره بالقصة فلقي جاره الذي يود بيع بيته واشترى الدار ودفع مبلغا كبيرا وقال لجاره : أنت حفظت حقوقنا ونحن لانفرط بجيرتك ) .
بالطبع هناك الكثير من القصص المماثلة لهذه القصة لكن الشيء اللافت للنظر هو أنه كلما تقدم الزمن كلما قل الاهتمام بالجار ، ومع ذلك لازلنا نجد أن حقوق الجار على جاره في الريف هي أكبر بكثير مما هي في المدينة ففي الريف ينظر الجار لجاره أو لأهل قريته كأنهم أهله ،يدافع عنهم ويحمل همهم ولعل هذا عائد لقلة عدد السكان ووجود صلة قرابة بينهم ولازلنا نجد ملامح حفظ الجار لجاره في الحارات القديمة في المدن حيث كانت بيوت الحارة مفتوحة على بعضها في المناسبات وفي الحياة الاجتماعية لكن بعد أن خرج الناس من الحارات إلى البنايات ذات نظام الشقق السكنية اضمحلت هذه العلاقات ومن هنا نقول إن حاجة الجار لجاره ليست حاجة اجتماعية واقتصادية فقط بل إنها حاجة إنسانية إذ لم يعد بمقدور الإنسان أن يعيش بمفرده وبمعزل عن غيره بل هو بحاجة إلى أصدقاء وأهل ومعارف يعينوه في المواقف التي يحتاج فيها لمن يقف إلى جانبه كي يشعر بالأمن والأمان وأنه ليس وحيدا في هذه الحياة .
المزيد...