عندما أقرأ قصيدة للشاعر ( عبد الكريم الناعم ) تهطل على أرض روحي أمطار الذكريات ، وتستمر بالهطول المتواصل لأكثر من أربعين عاماً ، فتطوف شوارع القلب ، وتفيض أقبية الوجدان وتنداح دوائر الذكريات الحلوة والمرة .
إنه ذلك السنديان الشامخ في جبل الشعر ، إنه تلك الصفصافة الدائمة الخضرة ، وقد تهدلت أفنانها اليانعة بأضاميم من القصائد المضيئة كالثريات الكريستالية النازلة كالسيل من جبل ( الأولمب ) إلى (وادي عبقر ).
لقد نهم من صحراء العروبة الأصيلة ، تفوح من أردانه روائح الشيح والقيصوم والزعتر ، ينثر من تجاربه العميقة قصائد قد تناسقت ألفاظها مع معانيها تناسق شعرات الهدب في الجفن وقد أفاض على الورق نزيفاً شعرياً ، هو من أحداق الأدب نورها ومن حدائق البيان عبيرها .
وجاء في(مجمع البحرين ) كتاب في الشعر والنثر للكاتب ( ناصيف اليازجي ) من مساكب الحرية أحلامها ومن دقات القلوب ناقوسها :لقد أدار منجله في الشوك و الزهر من حديقة الحياة ، مباركاً لشعبه في أفراحه ، ومعزياً له في أتراحه مجسداً رسالة الشاعر الحقيقي الذي يعتبر بلبل الأمة ولسان حالها والمدافع عن حقوقها ، والمعبر عن آمالها في شعره ثروة فكرية ، وغزارة معنوية ، وتلاحق يتغلغل في طوايا النفس مع عصف فكري ، وواقعية لفظية أنيقة ، ورمزية تصويرية متقنة .
لم يقتصر عطاء شاعرنا على قطف مواسم الشعر ، بل جمع أيضاً بيادر من النثر ، شأنه في ذلك شأن الشاعر الكبير ( نزار قباني ) الذي أعاد (عمر بن أبي ربيعة ) حيّاً في الشعر الغزلي ،وأعاد الجاحظ حياً في النثر الفني الرفيع المستوى ، فقد حلّق في سماء الإبداع بجناحي الشعر والنثر ، ومقالاته خلال الحرب ، تعتبر مدرسة في الوعي والعمق حيث فضح أكذوبة الربيع العربي ، وعرّى الزيف والبهتان ومزّق أقنعة التنكر ، ودعا إلى التسامح والأخوة .
إن دراسة النتاج الشعري والنثري للشاعر ( عبد الكريم الناعم ) يحتاج إلى لجنة من النقاد الاختصاصيين ، ولا تكفي مقالة للإحاطة بهذا السيل النقي الذي يتدفق بغزارة لافتة ، لم تنقطع لغاية الآن بعد أن آثر الكثير من الأدباء الصمت والفرار من ميدان الكتابة الهادفة والملتزمة ، ومن مفردات هذا النتاج : حب الأرض .. عشق الحرية …الوطن …تكريم المرأة .. جمال الصحراء .. سيف الحق .. سطوة الجمال .. نصاعة الخير عمق الوعي .. الدعوة إلى العدل والإخاء والمساواة .
وباسم كثير من أدباء حمص ، ندعو لجمع تراث هذا الشاعر ، وإعادة طباعته في مجموعتين (شعر ونثر) ، ليتعرف الجميع ومن مختلف الأعمار على شاعر حمص ومحل فخرها واعتزازها ، على أن تواكب ذلك دراسات وتحقيقات وتحليلات ، تشير إلى مكامن المتعة والفائدة فيه، لأنه جعل من حياته كلها رحلة حج نحو الحقيقة والجمال ، وكان حارساً يقظاً لهما ، كما تحرس الأشواك ورودها .
نزيه شاهين ضاحي
المزيد...