دعونا بداية نقر الحقيقة – البديهية وهي أن العمل شرف للإنسان ولعل من أصدق الأعمال هو العمل الزراعي لأن الأرض معطاءة ترد ما تأخذه أضعافاً مضاعفة، وكما يقول المثل : « الكرم أكرم من صاحبه ». ولكن يبدو أن البعض وخاصة ممن طرق أبواب العلم والدراسة نسي الأرض التي ترعرع من خيراتها وبدأ يتململ من العمل بها .
حدث ذلك نتيجة لأسباب منطقية بنظر البعض فهذا الشاب المتعلم الذي تخرج من معهد غير ملتزم أو جامعة راح ينتظر الفرصة ولم تأت أي مسابقة للتوظيف ، وقد طال الانتظار الذي ولّد الكآبة والفراغ فلا حصل على وظيفة ، ولا استطاع العمل في أرضه . وهنا يبدأ الوساوس فهو المتعلم ،وإن كان سيعمل في الأرض فلماذا تعلم ؟ وهو لا يستطيع الزواج إذا لم يحصل على وظيفة – رغم أن الأرض يمكن أن تعطيه أكثر من الوظيفة بكثير – ولذلك يفكر ببيع حصته من الميراث …ويصبح كالنبتة التي اقتلعت من الجذور .
هجروها ..فهجرتهم السكينة
سمعنا الكثير من القصص عن أبناء – وعبر أكثر من جيل – هجروا العمل في الأرض وسعوا إلى العمل الوظيفي ( الخاص أو العام ) وذلك بغية الكسب المادي الشهري بدلاً من انتظار المواسم السنوية وربما دفعتهم إلى ذلك ظروف قاهرة ، ولكن ما زاد من هذه الظاهرة اتجاه الأبناء إلى التعلم الذي يولد البحث عن وظيفة وفي هذه الفترة يصبح الابن مستهلكا ووالده هو المنتج الذي يعطيه المصروف …
اسماعيل موظف منذ أكثر من -15- عاماً قال : لقد تركت قريتي وتوجهت إلى المدينة أملاً في الوظيفة وخاصة أني حاصل على شهادة جامعية وكنت قبل ذلك غير مهتم بالعمل الزراعي بالرغم من أن عائلتي تملك أرضاً زراعية واسعة ورثناها عن جدنا ولذلك كنت أساعد أهلي فيها على مضض ، وما إن تخرجت حتى انتهزت الفرصة لأتوجه إلى المدينة للعمل وليتني لم أفعل فقد أهملت الأرض وخاصة بعد وفاة والدي ،وأخوتي الأصغر قلّدوني فباتت الأرض بوراً والآن لم يعد لي القدرة على العمل الزراعي وبدأت ببيعها قطعة وراء قطعة .
محمد قال : لقد أهملت أرضي نظراً للظروف المادية الصعبة التي مرت بها العائلة – ولم تكن دراستي هي السبب – مما اضطرني لبيع جزءاً من الأرض واشتريت جراراً زراعياً ومستلزماته لأستصلح بقية الأرض وكنت أوفق بين دراستي – ومن بعدها وظيفتي – وبين العمل الزراعي مما حسن الأحوال المادية كثيراً فالأرض كريمة وتعطي من يعطيها أضعافاً مضاعفة.
في ظل الحرب ..
على مدى سنوات عديدة لاقت الهجرة من الريف إلى المدينة رواجاً كبيراً مما أدى للتأثير سلباً على العمل الزراعي وزيادة العبء على المدينة من نواح عديدة كأزمة السكن والازدحام …
البعض كان قد باع أرضه وغادر القرية حباً بالمدينة ومظاهرها المغرية وقد تمكنوا من التعايش مع هذه الأجواء ونسوا تماماً أجواء الريف …اليوم وبعد أن مرت البلاد بظروف صعبة والحرب ، ولم ترحم البشر ولا الحجر . اضطر البعض للعودة إلى قراهم والسكن عند أقاربهم فكان الأثر النفسي السلبي كبيراً وأصبحت المأساة مأساتين : مأساة التهجير والحرب التي عشناها جميعاً ، ومأساة العمل في أرض كانوا يوماً ما يملكونها ..
عماد موظف قال: نتيجة الظروف التي مرت بها البلاد عدت إلى قريتي بعد غياب سنوات طويلة ، وقمت بترميم منزلي القديم الذي ولدت فيه وبدأت استصلاح أرضي التي هجرتها منذ زمن فكان عطاؤها كريماً وأشعر أني كلما ذهبت إليها تحييني وتشكرني ، لقد أنساني العمل بها همومي والمأساة التي تعرضت لها خلال الحرب … أقول بصدق لقد شاركتني أرضي همي ولو تسمعني أتمنى أن تقبل اعتذاري لهجري لها كل تلك السنوات .
ماجد- طالب جامعي قال : قد تكون الأزمة الاقتصادية بالنسبة للبعض مؤثرة جداً مما يجبرهم على العمل في الأرض (المواسم) وذلك للحصول على مردود مادي ، هذا جانب، والجانب الأهم هو لمن يملك أرضاً -حتى لو بضع أمتار- فقد استفاد منها وزرعها بالخضار الموسمية التي تضاعفت أسعارها كثيراً وبذلك حقق لأسرته الاكتفاء الذاتي .
ورشات موسمية
في العديد من القرى وفي مواسم جني المحصول المتعدد بأنواعه المتتابعة ( لوز- كرمة- زيتون ..) تتشكل ما يسمى بـ «ورشات الشغيلة» على مدار الصيف ، ومواسم الحصاد وهي تضم مجموعة من الشبان والفتيات من أبناء القرية والقرى المجاورة والعديد منهم ممن مازالوا يتابعون دراستهم باختلاف مراحلها .. والسبب الواضح لذلك هو المردود المادي ..
صادف والتقينا إحدى الورش في حقول العمل كان العرق يغطي وجوه شباب بعمر الورد، وسواعدهم غيرت الشمس ألوانها، والابتسامة في العيون قبل الشفاه … تجمعوا وتسابقوا للإدلاء برأيهم :
لؤي – ثالث ثانوي- قال :يملك أهلي قطعة أرض صغيرة جداً أعمل بها ولكن أحب أن أشارك في ورشات العمل هذه لأني ومنذ صغري اعتدت على ذلك ، فالعمل يكون بعد الظهر بعدها نتفرغ للدراسة وخاصة هذا العام أمامي شهادة ثانوية يجب أن أحصل عليها ..وأنا سأستمر بالعمل في الأرض حتى لو تابعت الدراسة في الجامعة ..
ديما ،وصباح، وميادة اعترضن على هذا الرأي وأكدن أنهن لو تابعن الدراسة ( حاصلات على الشهادة الإعدادية ) لتركن العمل في الأرض وتفرغن للدراسة ولكن لقتل وقت الفراغ والحصول على مصروف الجيب يعملن في تلك الورش ..
أما أحمد وهو طالب في المرحلة الثانوية أكد أن عمله في ورشة العمل الزراعي ما هو إلا للحصول على مبلغ من المال يصرفه على متطلباته الشخصية ( ملابس-جوال-..) ويوفر بعضاً منه وبذلك يخفف العبء عن كاهل والده الذي يعيل عائلة كبيرة ..
آباء وأبناء.. وأرض زراعية
علي – مدرس متقاعد لديه تسعة أولاد قال : إن جيلنا يختلف عن جيل أبنائنا فقد كنا نعمل في الأرض ونتابع دراستنا ، وكذلك الوظيفة لا تلغي الاهتمام بالأرض الزراعية حتى أني أعرف أشخاصاً يعيشون في المدينة ويعودون للعمل في الأرض في المواسم وفي العطلة ..وبالنسبة لأولادي فقد كانوا يساعدوني في العمل ولكني لم أكن أضغط عليهم كثيراً – لأن حب الأرض ينبع من القلب – وقد حققوا مراكز علمية جيدة وأحدهم اختص بالمجال الزراعي .
جابر – طالب جامعي قال : رغم أن والدي يملك أرضاً زراعياً إلا أنني لا أشعر برغبة للعمل فيها ربما لأني لم أعش بالريف إلا منذ عدة سنوات وربما لأن والدي لم يعمل بالأرض فقد كان دائم السفر وكان الاعتماد على جدي وأعمامي فيما يختص بشؤون الزراعة ،ورغم أني حاولت جاهداً التأقلم مع الريف ولكن لم أفلح ويبقى حنيني للمدينة التي عشت فيها طفولتي .
رغم كل ما تقدم ستبقى الأرض أمنا جميعاً وستبقى تعطينا من خيراتها .
منار الناعمة