يبدأ الروائي الحمصي عبد الغني ملوك روايته الاجتماعية الجديدة (عودة لوليتا) الصادرة قبل أيام , بمقولة مشهورة للعالم المعروف لافوازييه :” لا شيء يفقد…لا شيء يولد …الكل يتحول وتلخص هذه المقولة فكرة تحول شخصيات الرواية بحسب المصلحة الشخصية لكل منهم,فما اجتمعت شخصيتان في أحداث الرواية إلا وكانت النفعية ثالثهما.
على مدى مئتي صفحة قسم المؤلف روايته إلى ثلاثة عشر فصلا يوصف فيها خيانات متعددة , بدءاً بناصر الولد العاق الذي أرسله والده للحصول على شهادة الطب في إيطاليا , وهناك غيّر اختصاصه كنوع من الخيانة لرغبة والده ,ودرس الرسم متبعاً نصيحة مدرسة مادة التربية الفنية ناديا التي خانته فيما بعد لتتزوج من زميلها في العمل رغم الحب _النافر اجتماعياً _ حب الطالب ناصر في الصف العاشر لمعلمة الرسم ناديا التي تكبره بثماني سنوات وهو حب يسقط فيه المراهقون عادة ,ولكن لا يُبنى عليه ولا يُنتظر منه ثمراً ,إلا أن ناصر ناجى ناديا وهو في الطائرة :”انتظري يا ناديا سأخونك مع كل صبايا روما” أما الخيانة الثانية التي ألمح لها الكاتب فهي خيانة ناصر ذاته الذي ترك وطنه خلال الحرب ولم يعد له إلا بعد 35 عاما قضاها بحالة بوهيمية “متنقلاً بين أحضان النساء”كما وصفها على لسان مدير معهد دار الفنون في دمشق والخيانة الثالثة عندما تركته لوليتا الفتاة الإيطالية الجميلة ذات الستة عشر عاماً والتي تعمل كموديل عارية للرسامين ,وقد عرف بخيانتها صدفة عندما قضت إثر حادث سيارة برفقة صديقها والخيانة الرابعة عندما علم من المحاسب الذي كان يعمل لدى والده التاجر الغني بأن أخوته لم يعطوه سوى جزء يسير من ميراث والده وقد أفشى له بطريقة خبيثة لاسترجاع أمواله شرط أن يعطيه نسبة مما سيحصِّله من أخوته الذين خانوه وهو الواثق بهم ثقة عمياء ,والخيانة الخامسة فقد تعرض لها البطل بعد أن عاد إلى أرض الوطن ,وهي خيانة قمر التي أسماها لوليتا السورية فقد دربها على الرسم قبل امتحانات القبول في كلية الفنون الجميلة ومنحها وقته وعلمه وتجربته خلال دراستها في تلك الكلية قد تركته وتزوجت من زميلها سمير الذي صعقه خبر زواجهما في نهاية الرواية وخروج البطل إلى الشارع هائما على وجهه في التيه ,مصعوقاً بكل تلك الخيانات .
رغم أن الكاتب يبرر كل أشكال الحب التي وقع فيها ناصر مستنداً إلى علم النفس فلما أحب معلمته التي تكبره بسنوات كان فرويد حاضراً بعقدة اوديب وقد شرح ذلك صراحة مخالفاً الأسلوب العام المتبع في الكتابة بترك هذا الاستنتاج للقارئ ,وكذلك فعل لما سقطت قمر “لوليتا ” السورية العشرينية في حبه وهو الستيني مبررا كل ذلك بأن الحب لا يعترف بالقوانين والقواعد المسبقة ,كما عالجت الرواية النفاق الاجتماعي في التربية والنفاق لدى الكثير من التجار حيث كان والد ناصر التاجر يحتفظ بدفترين للحسابات أحدهما مخصص لمأمور الضرائب بغية تضليله وعندما كان يعجز عن ذلك كان يلجأ للرشوة ,وقد عرى الكاتب في هذه الرواية الكثير من الممارسات كتهريب الأغنياء لأولادهم خارج الوطن خلال الحرب بحجة الدراسة وعرى ممارسات بعض التجار بادعاء الإنسانية والتصوف يوم العطلة وهم يقضون الأسبوع كله في الرشى والتهرب الضريبي كما عالج فكرة قتل التفوق والنبوغ وذلك بحرمان الطالب الأول على قسم الرياضيات من السفر كمنحة دراسية لإتمام تعليمه من أجل إرسال طالب آخر غير متفوق سرعان ما تحول إلى تاجر باع واشترى ثم هرب للخارج مع بداية الحرب .
يعتمد الكاتب على نظريات علم النفس في تفسير مآل الشخصيات ,والرواية تصرف 37 صفحة في تقنية الخطف خلفاً على شكل مناجاة بلسان ناصر البطل الوحيد في الرواية التي كُتبت بضمير المتكلم حتى عندما يدخل الكاتب في وصف الأمكنة سواء إيطاليا أو سورية فيصف بحر اللاذقية وريف مصياف ووادي جهنم وقرية دير العدس ذات البيوت الطينية البائسة مسقط رأس قمر طالبته وحبيبته وحي باب توما في دمشق مسقط رأس البطل.
الحدث في الرواية بسيط والقصة مطروقة والزمان غير محدد لولا بعض الإشارات والدلائل التي تبدأ مع بداية الحرب عندما ترك البطل بلده خلال الحرب دون تحديد أي حرب ثم عودته بعد 35 عاما والمكان موزع بين ايطاليا وباب توما في دمشق, وكأن الروائي أراد أن يخفي أكثر مما يبين وهي رواية جديرة بالقراءة عالجت الظروف الاجتماعية التي سبقت الحرب ثم عالجت نتائجها ولكن بإشارات بعيدة فالقراءة الأولى للرواية توحي بأنها تتحدث عن قصص حب غريبة وفاشلة لبطلها الفنان التشكيلي بدءا من حب الكبيرات سناً في المراهقة وصولا لحب الصغيرات في الكهولة ولكن الإشارات الكثيرة التي فاضت بها الرواية تدل على أن الكاتب أراد القول بأن من يدافع عن البلد هم فقراؤه, فالأغنياء يهرِّبون أولادهم بحجة الدراسة.
الرواية شيقة يتناولها الراغب في ثلاث ساعات جرعة واحدة , وأرجو أن أكون قد وفقت في هذه القراءة الانطباعية ,فالمتن يحمل بصمة الروائي عبد الغني ملوك كاتبها ذاته ,فلغته غير شعرية والحبكة محكمة والقصة مطروقة وتسلسل الأحداث منطقي ,قارب فيها الكاتب المحرمات الثلاث(دين ,جنس ,سياسة ) بطريقة مواربة ,ومعالجته للحرب الأخيرة ثانوية جاءت في خلفية الأحداث وكأنه كان يخشى مقص الرقيب طيلة الوقت.
ميمونة العلي