تبقى المدن رموزاً للحضارة الإنسانية ، وهي على وجه الأرض ، ليست فقط بيوتاً وأسقفاً وجدراناً ودروباً وحارات بل هي أيضاً نجوم ، تشع بالحب والدفء ، ولاتقل تألقاً عن النجوم في السماء ، وعشقها بذور مغروسة في قلوب ساكنيها ، ومع الأيام تنمو وتكبر ، وتتحول إلى أشجار باسقة من العشق والوجد ، لاتقل أبداً عن عشق النساء ، لابل قد تتفوق عليه ، لأنها حب يكبر ويزيد ، بينما عشق النساء متبدل ومتغير حسب الظروف والأهواء .
وقصائد الشعراء و تعلقهم بالمدن ، والبكاء على أطلالها اوسمة على صدر الأيام والأزمنة ، أما عشق النساء فهو غريزة تولد مع الإنسان ويختلف توهجها من إنسان إلى آخر وكلها تصب في طاحونة المحافظة على بقاء الإنسان على وجه الأرض لإعمارها وتطويرها واستمرار بقائها ، وقد يخبو هذا التوهج تحت رماد الأيام وتذروه رياح الظروف .
ورواية ( مدن ونساء ) للأديب ( عيسى إسماعيل ) تبدو وكأنها سيرة ذاتية لحقبة من حياة بطلها ( عبدو العليان ) الذي يعمل محامياً ولديه مكتب وسط مدينة ( حمص ) وعلى الرغم من بلوغه الخمسين من عمره ، فهو لايزال عازباً ، يلتقي بـ(عبير) بعد عشرين سنة من الفراق ، حيث كانت مشروع حبه الأول الفاشل ، وهي امرأة رائعة الجمال ملفوفة القوام متزوجة من الطبيب ( ماهر ) ولديها ابنة (هناء) في السادسة عشرة من عمرها وتطلب منه أن يرفع دعوى طلاق من زوجها لعلة الشقاق فهو يضربها ويشتمها باستمرار بالإضافة إلى غيابه المتكرر عن المنزل بحجة السفر .
في زيارة (عبير) إلى مدينة (الرياض ) السعودية حيث يعمل زوجها الطبيب (ماهر) تكتشف أنه متزوج من امرأة أخرى (ليلى) التي تحمل الجنسية السعودية ولكنها تعود في أصولها إلى إحدى العائلات السورية ،وهي كبيرة في السن ولكنها غنية جداً ، وتساعد (ماهر)في تدبير أموره المالية ، فتثور بعنف ، وتطلب الطلاق غير عابئة بتوسلات (ماهر )واعتذاره وطلبه العفو ،وتعود مع ابنتها إلى منزل أهلها بدمشق حزينة مكسورة .
في مشهد آخر من الرواية ، تعطي (عبير ) المحامي (عبدو) دفتر مذكراتها الشخصية طالبة رايه فيها ، فلا يجد فيها جديداً ثم مايلبث (ماهر ) أن يتوفى ، وبعد انتهاء العدة الشرعية تحضر (عبير) لمكتب (عبدو) لتخبره بأنها ستتزوج من مسؤول كان يعرفها ويلاحقها بغرامياته ، وهو متزوج وعنده أولاد ، وتسأله عن رأيه : هل ترفض أم تقبل ؟.. فلايسعه إلا أن يبارك لها على مضض ، وتنتهي الرواية بمأساة مروعة حاكتها إبرة الزمن بيد قدر أرعن إذ تقتل (عبير ) على يد أحدهم في ظروف غامضة ، ولكنها تقتل قاتلها قبل أن تموت.
مهما حاول مؤلف أية رواية الاختباء خلف حروفها والتخفي وراء كلماتها فإن بعضاً من ملامحه يظهر وتابى بصمات حياته إلا أن تمد برؤوسها من بين السطور بين لحظة وأخرى ففي السيرة الذاتية للطبيب (ماهر )ودراسته بجامعة (دمشق)وسفره للعمل في السعودية تقاطع واضح مع حياة المؤلف الذي درس بجامعة دمشق وأعير مدرساً لمادة اللغة الانكليزية بالسعودية ) ولكننا لا نجزم بذلك لأنه ليس بالضرورة أن تكون أحداث رواية ما مطابقة لأحداث حياة مؤلفها ، ولوصحّ ذلك لكان يجب إلقاء القبض على الروائية المعروفة (أجاثاً كريستي )مؤلفة الروايات البوليسية المشهورة ومحاكمتها بتهمة قتل أكثر من خمسين ضحية في رواياتها والحكم عليها بالتالي بالإعدام شنقاً حتى الموت !!
يقول الروائي (عيسى اسماعيل )ص (24)فعندما ترى الوردة الجورية تداس )والعطر يختنق ،وشجر الياسمين يحاصر )عندها يصبح الزمن أجوف لا مكان فيه لوردة ولا لعطر .
وفي ص (242)(حمص)قلب سورية ،هل تدرك هذا ؟ وسورية قلب العالم ،نحن هنا في قلب العالم ،انظر كم تبدو (حمص )مهيبة وحمص ولادة الأميرات .
هذه الملاحظات من الروائي (عيسى اسماعيل )أعطت لروايته (مدن ونساء )أبعاداً سياسية واجتماعية هامة )تدل على إلمام عميق بمتغيرات الحياة في المجتمع السوري المعاصر ،وهي لا تخلو من جرأة وموضوعية ،ولكنها تسدل على مرايا الحياة ستارات من السواد )وتنصب شباكاً لصيد الريح ،فهو يطارد سرابه إلى ما لا نهاية .
كان السرد سلساً ومشوقاً فيه حرفية ومهارة ،يبدو لقارئه يصور حدثاً واقعياً ،قوامه الفقر والحرمان والسلطة والمال والنجاح والإخفاق )مسكون بأبطال يدورون في دوامة الأحداث حول نبوءة أمل أو بشرى خلاص ) ودراما الأحداث تتسلل بطريقة مدهشة وبدت المفارقات موزعة حسب معطيات الظروف ،حيث الخبرة بدت في التصوير والتعبير ،وربط المقدمات بالنتائج بأسلوب منطقي واضح .
وكانت اللغة تنساب كالسهل الممتنع بدون اصطناع أو تكلف فهي تتكلم بضمير الواعي الذي لا يملي بل يكشف وقد نحا أحياناً باتجاه الخيال الشاعري الجميل فعلى مدى الصفحات من (254 إلى 259) اتبع أسلوب البرقيات المختصرة التي تزيل صدأ الروح ،وتندفع كموج يمحو قصور الرمال ،وتغرس شوكة أخرى في أدغال الشوك الموجودة أصلاً في صدره فهي حطب الليالي الباردة ،وسنابل أحلام انحنت أمام الريح كما لم يتورع عن إرسال بعض البرقيات باللغة المحكية الأنيقة لقد كان التآزر بين أحداث الرواية قوياً ومتيناً ينمي حاسة الذوق لدى القارئ ،لأن الرواية الحقيقية هي ما يبقى بعد زحف غبار النسيان على كل شيء .
نزيه شاهين ضاحي