العمارة الشعريّة وهندسة القصائد …محاضرة لفرع جمعية العاديات…

 بدعوة من فرع جمعية العاديات وبالتعاون مع المركز الثقافي العربي قدم الشاعر محمود نقشو محاضرة بعنوان العمارة الشعريّة بحضور جمهور من المهتمين ومتابعي الأنشطة الثقافية في قاعة الدكتور سامي الدروبي ، حيث رأى  نقشو  أن الشاعر منذ القديم انحاز إلى العمارة في سائر أعماله ، من حيث هندسة القصائد اللغويّة والتخيلية ، والألفاظ التي يستدعيها من حقل معرفته , لكن لماذا يحتاج الشعر إلى العمارة ؟ .. العمارة في هكذا حال هي القصيدة التي يخترق القارئ حروفها ، ويتفاعل مع نسيج بنائها وموسيقاها – داخليّة كانت أم خارجيّة أم الاثنتين معاً -، فيقرأ كلماتها ، عبر مشاهدته (الكتلة) ، ويحتلّ كتلته (الطبيعة) المندمجة فيها ، أي يسكن (الفراغ) وأضاف : لأنّ العمارة كانت الفنّ الأوّل للإنسان ، فالكائن الأوّل فطِن إلى ضرورة بناء مأوى يمنحه الخصوصيّة ، ويحجب عنه عوامل الطبيعة غير الرحيمة ، فكانت بيوته الأولى من سعاف النخيل وجذوع الشجر ، وظلّت عين الكائن البشريّ الباحثة عن الجمال دوماً تتمرّد ، وترفض الانصياع لضرورة الوظيفة وحدها ، بعيداً عن مكامن الجمال ، فراح يطوّر الشكل والمضمون مع بعضهما ، حتى غدا المأوى البدائيّ قصراً وهرماً وقلعة وناطحة سحاب ، عبر سلاسل من المدارس المعماريّة ، (الكلاسيكيّة) و(الحداثيّة) وما بعد الحداثيّة.

 وقال : ما بين الشعر وفن العمارة علاقات شكليّة وفكريّة متماثلة , رغم أنّ العمارة أقرب إلى الفنّ من الهندسة المعماريّة والمدنيّة, والشعر كالعمارة كونه تعبيرا فنيّاً ــ جماليّاً ــ فكريّاً ، يتّسق فيه الشكل مع المضمون , والشعر بناء جماليّ بهندسة أسلوبيّة مبدعة .. كذلك العمارة ، وكلاهما له وظيفة متماثلة ، اجتماعيّة ونفسيّة وبيولوجيّة .. الخ ، وينتميان إلى مدارس فنيّة واحدة ، واقعيّة أو كلاسيكيّة أو تعبيريّة أو رمزيّة .. الخ ، وأجزاء العمارة مصمّمة بأسلوب وظيفيّ وجماليّ ، كذلك مفردات الشاعر اللغويّة ، حينما لا تكون منتقاة فإنّها تولد عدم الاستجابة الوجدانيّة والمعرفيّة لدى القارئ الناقد ، وأشار المحاضر إلى استناد الشاعر إلى معايير قاعديّة للغة تحكم القصيدة ، كالنحو والصرف والعروض والقافية ، ما يعني أنّ القصيدة مبنيّة على تفكير منطقيّ ــ سببيّ ، وكذلك حين يستند الشاعر إلى استعمال ضروب من المجاز كالتشبيه والاستعارة يعنى أنّ القصيدة مبنية على تفكير فنيّ جماليّ .. فيه الخيال الجانح الذي يوسّع فلسفة المعمار الفنيّة ، فالقصيدة وفنّ العمارة يشتركان في التفكير المنطقي ــ السببيّ المتسلسل ، وهذان يجمعان الشعر وفنّ العمارة في ميدان واحد .  

وقال إن بعض النقاد جعل ميّزة للشعر على العمارة ، فالبيت الشعريّ وإن شبّه بالخباء ، إلّا أنّه يختلف عنه ، فهو بناء متعدّد الطوابق بشكل لم تصل إليه الهندسة الحديثة بعد ، فهي لا تشبه طوابق أيّة عمارة ، لأنّ بعضها لا يعلو البعض الآخر  ولا تشبه البناء المتعدّد الأجنحة ، لأنّ الجناح فيه لا يتلو الجناح الآخر . فالطابق الأوّل مؤلّف من الألفاظ والعلاقات التي ترتبط بعضها بالبعض الآخر . وقد عاش في هذا الطابق العديد من المثقّفين ورجال الفكر خلال العصور المختلفة ، وبعضهم لم يغادره طيلة حياته ، وانشغل بمتابعة الحروف ، كيف تجتمع ، وكيف تفترق ، مكوّنة كلمات مستعملة ، وكلمات مهملة ، وكلمات صحيحة ، وكلمات معتلّة … ، وبين سكان هذا الطابق والمفردات الشعريّة علاقات حميمة . والطابق الثاني طابق النحّاة ، وسكانه المنقسمون على أنفسهم بين مدرسة بصريّة ومدرسة كوفيّة ، مشغولون بدراسة تراكيب الجملة . والطابق الثالث عبارة عن طابق الصوتيّات ؛ الحركات التي تبدو للعين صغيرة جدّاً ، والطابق الرابع هو طابق المحسّنات البديعيّة.

 وتوصل المحاضر إلى أن مصطلح بيت حين يستعمل في العمارة أو في الشعر يعني وجود أكثر من وشيجة بينهما .. لأنّ البيت الشعريّ مأخوذ من الخباء ، وهو سكن شعبيّ للعرب في باديتهم ، استعير إلى عالم الشعر الذي أبدعوه .. وأشار إلى أنّ فنّ العمارة كالشعر فنّ تغيير الواقع .. ولعلّ ما يعمّق روح الإلهام في دور العمارة الإفادة من التطوّر العلميّ للبشريّة ، والعلم في تطوير الفنّ .. فقد انتفعت الفنون من علم الهندسة ، كما في فنّ الرسم التكعيبيّ وفن العمارة والنحت وهذا ما يؤكّد الوحدة الكليّة للفنون والعلوم ، ما يؤدّي إلى التقدّم والازدهار.

ورأى المحاضر  أن الشعر يمكن أن يكون تمظهراً لقوة النظام اللغويّ والإيقاعيّ ، ومظهراً للبناء اللغويّ المتماسك والفصاحة العالية ، لكن أيضاً مظهراً للضعف الداخليّ. ويبدو أنّ المتن الشعري الرفيع يمسّ المترجرج في الكائن الإنسانيّ . يمسّ الجوهر القلِق الذي هو في طبع الكائن غالباً . إنه يمسّ الموضوعات الكبرى التي تتجاوز الحب ، الحياة ، الموت ، الشيخوخة …. الخ .  . إنه يستخرج الدروس الكبرى من الهفوات الصغرى في الوجود.

 وختم بالقول: وإذا‏ ‏كان‏ ‏أفلاطون‏ ‏قد‏ ‏كتب‏ ‏على ‏واجهة أكاديميّته‏ (‏لا‏ ‏يدخلها‏ ‏إلّا‏ ‏مهندس‏) ، ‏فالأجدر‏ ‏اليوم‏ ‏أن‏ ‏نكتب‏ ‏على ‏أقسام‏ ‏العمارة‏ ‏في ‏كلّيات‏ ‏الهندسة‏ ‏ومعاهدها‏ : (لا‏ ‏يدخلها‏ ‏إلّا‏ ‏شاعر‏)‏.

عبدالحكيم مرزوق

 

المزيد...
آخر الأخبار