دموع صامتة تذرفها بغزارة ،وهي تعانق أمها وشقيقيها، عند الباب لايسألها أحد من أفراد الأسرة عن سبب عودتها ، لأنهم يدركون السبب.
بعد ستة أشهر عادت / سمر/ لتعيش معهم في كنف بيت قديم بني من الحجارة السود .
ستة أشهر ذاقت خلالها صنوف القهر والغضب وتحملت أذى لاتستحقه وهي الوادعة الرقيقة المدللة لأنها الابنة الوحيدة في الأسرة .
حضر فجأة إلى القرية ، من المغترب ، بعد أن هاجر مع أسرته قبل خمس وثلاثين سنة ، كان وقتها /ماهر/ الذي أصبح اسمه / مارك/ في الخامسة عشرة من عمره ، يقال إن أسرته بعد كفاح لسنين عديدة ، أصبحت ثرية ، وأن والده يمتلك مصنعا ً في / لوس أنجلوس / للمرطبات والعصائر .
عندما وصل البلدة ، استأجر فيلا كبيرة تحيط بها مزرعة صغيرة كما استأجر سيارة فاخرة وراح كل يوم يزور أسرة من أقربائه ، وعندما أرسل من يخبر أهل /سمر/ بموعد زيارته لهم ، بحكم القرابة التي تربطه بهم ، فأم مارك واسمها /نجاح/ هي ابنة خالة أم سمر ، عندما خرجت الأسرة إلى الشارع لاستقباله ، كان يحمل بيديه كيسين كبيرين فيهما هدايا متنوعة ، لقد أصر الزائر على معانقة مستقبليه بما فيهم سمر وأمها، على عادة أهل تلك البلاد التي جاء منها .
كانت سهرة طويلة نجمها / مارك/ الذي تحدث عن مصنع أبيه وعن الحياة في / لوس أنجلس/ وقال إن مادفعه إلى زيارة الوطن بعد غربة طويلة هو أن يتذكر أترابه ويتذكر مرابع طفولته ويريد أيضا ً وهذا هو الأهم أن يوكل محاميا ً لحصر أملاك الأسرة وبيعها ، بعد أن استقرت في المهجر بشكل نهائي .
كان ترحيب أم سمر وابنتها وابنيها حارا ً بالضيف الذي راح ينادي أم سمر بـ / خالتي/ تارة وتارة يستبدلها بكلمة /آنت/ المرادفة لها باللغة الانكليزية ..!! ولاحظ الجميع أن / مارك/ يلتهم / سمر/ بنظراته ويسمعها كلمات جميلة فيها ثناء على إعدادها للمائدة وعلى ماتقدمه من أصناف متنوعة من صنعها كما قالت أمها .
غير أن المفاجأة التي أذهلت الأسرة حصلت بعد يومين من الزيارة إذ جاء مارك وطلب يد سمر زوجة له .
“ولكنه يكبرني بثلاثين سنة ..!! ” قالت محتجة أمام أمها بلهجة فيها استغراب واستنكار واضحين .
- ” وماذا فيها .. باب السعد ينفتح أمامك .. لاتكوني مغفلة .. قريبي / مارك / تركض وراءه كل بنات البلدة .. ويقول انك ستسافرين معه .. وأكثر من هذا سيرسل بطلبنا أنا وشقيقيك.. !! “
- ( ودراستي .. ومستقبلي؟! ) تسأل سمر بامتعاض .
- ( تكملين الدراسة في أمريكا .. مَنْ من الناس تأته فرصة الدراسة هناك ويرفضها ..!! أعرفك ذكية ياابنتي!! ).
- وبعد صمت قصير ، تقول أم سمر بهدوء :
- (الشيء الوحيد الذي يحزنني هو أنني سأشتاق لك كثيرا ً ، لكن مدة فراقنا لن تطول .. ثلاثة أشهر على الأكثر .. كما يقول مارك ..!! ).
- كان عرسا ً أسطوريا ً ، كما يقول أبناء البلدة ، سمر ومارك يجلسان أمام المدعوين في صالة كبيرة ، امتلأت بهم ، وتحيط بالعروسين أكاليل الورد الكبيرة تتمنى لهما السعادة والرفاه والبنين .
بعد أيام قليلة ، بدأت سمر تشكو غرابة أطوار زوجها ، غير أن أمها تعتبر الأمر عاديا ً وسوف ينتهي بعد أسابيع على الأكثر .
غير أن الشكوى باتت أكثر وضوحا ً :
( أمي .. أرجوك أريد العودة إلى البيت .. لا أستطيع الاستمرار معه… يسهر حتى منتصف الليل مع أصحابه من شبان القرية ، في الملهى القريب … يأتي مخمورا ً ….. يصرخ … يشتم … يتهمني بالسذاجة .
- ( أنت تريدين تشويه سمعتنا … لابد أن عينا ً أصابتك بالحسد…لاينقصك شيء .. كلامه جميل ، كريم اليد، يأتيك بكل ماتطلبين ….!! )
تقول الأم مؤنبة ابنتها .
ترد سمر :
( لكنه أمامكم إنسان آخر .. هو ممثل كما يبدو، أمامي يصرخ ويشتم كل شخص وكل شيء ..!! ) .
* * *
تكفكف سمر دموعها ، تتفقد غرفتها ، ترتب سريرها ، تشعر بالأمان الذي افتقدته منذ ستة أشهر ،غدا ً سوف تذهب للجامعة لتجدد تسجيلها.
تفتح النافذة ، يتعلق نظرها بشجرة الورد الجوري الكبيرة في الحديقة، تقول بفرح طفولي :
( لقد عدت إليك ياصديقتي …!!)
ترد شجرة الورد التحية .. تتراقص أغصانها وتنشر عطرها الباذخ.. الذي افتقدته سمر منذ ستة أشهر أشهر ….!!.
عيسى إسماعيل