كانت الشمس قد ارتفعت قليلاً ،وكانت نسيمات الصباح تحمل شذى شجرة الياسمين الكبيرة في حديقة المنزل في بيتنا في القرية… فالبيوت في الريف تحيط بها أرض واسعة فيها عرائش العنب وأشجار اللوز والرمان والتوت الشامي ،وفيها أيضا شجيرات الجوري والياسمين .
اعتدت في زياراتي للقرية أن أستيقظ مبكراً لأجد أمي قد سبقتني إلى الحديقة أمام باب المنزل وما أن تراني حتى تقول :
(لعلك نمت جيداً يا بني ..هيا جهز لنا المتة !!)
ومع أنني قلما احتسي المتة ،فإن احتساءها مع أمي يجعلني أتذوقها بلذة كبيرة
(ما أجمل بيتنا هذا يا أمي !!)أقول لها دائماً
في هذا البيت ولدت وأمضيت طفولتي وفتوتي وغادرته عندما بدأت دراستي الجامعية وبعدما أنهيت الدراسة وجدت عملاً في المدينة لأضطر للعيش فيها.
في زياراتي للقرية ،أشعر أنني استعيد توازني وأشعر بسعادة لا توصف وكأنني أقطف نجوم السماء ..!!
أمي تقيم وحدها / في هذا البيت الكبير / وقلما يأتي أشقائي الذين يقيمون بسبب وظائفهم في المدن البعيدة
وجاء ذلك اليوم المشؤوم ….ماتت أمي …
بعد انتهاء العزاء ،عاد أشقائي وأنا إلى بيوتنا وأعمالنا بعدما تأكدنا أننا أقفلنا جيداً أبواب المنزل
بعد سنة وأكثر قلت في نفسي ،علي أن أذهب إلى بيت أمي الذي صار “بيتنا “أشقائي وأنا ،لأتفقده ،وأمضي يوماً فيه أستعيد ذكرياتي مع أمي وعندما وصلت وجدت صعوبة في فتح الباب بسبب الأعشاب التي غطت نصفه تقريباً وربما بسبب الصدأ الذي أصاب الأقفال ..!!
ثمة رائحة رطوبة وعفن في الغرف ،وثمة رائحة لا تطاق في المطبخ ..!! أسرعت بفتح النوافذ ،ليدخل الهواء وأزحت الستائر لتدخل أشعة الشمس وعندما رحت أتفقد أشجار الدار راعني ما شاهدت فاليباس أودى ببعض أغصان العريشة وأصاب شجرة الياسمين… وأتنقل بصعوبة بسبب الأعشاب والحشائش التي تغطي الأرض.. لم أر عصفوراً واحداً …أصابني الأسى وشعرت بالحزن ولكن فجأة رأيت شيئاً يلمع قادماً نحوي ،أدركت أنها أفعى هرعت إلى داخل المنزل ولم أغلق الباب ،الأفعى تتبعني وتدخل المنزل إلى آخر الممر لكنها تنحرف يميناً وتدخل المطبخ
أخرج أمام الباب وأصرخ :
(يا هو ..يا هو ..يا جيران أنقذوني ..!!)
بعد دقائق قليلة كان ثمة شبان عندي أخبرتهم بأمر الأفعى التي دخلت المطبخ فتشوا عنها كانت على أحد الرفوف
هرع أحدهم وجلب بندقية صيد ،فأطلق طلقة واحدة منها على رأس الأفعى وأرداها قتيلة ثم قام شاب آخر ،بإحضار قطعة قماش مهملة من أرض الدار وأمسك بذيل الأفعى وسحبها وألقى بها بعيداً وهو يضحك قائلاً :
(أفعى متوسطة الحجم ..أخافتك ،فكيف لو كانت أفعى كبيرة مثل التي قتلناها قبل أيام !!)
لم أشعر بلذة النوم في المنزل ،تلك الليلة وثمة كابوس جعلني أستيقظ وأقفز من السرير لقد شاهدت أفعى كبيرة مرقطة تطاردني داخل غرف المنزل ..!!
الحركة تدب في دروب القرية رائحة الخبز من الفرن القريب تعيد لي الطمأنينة أخرج إلى الحديقة ،لا رغبة لي باحتساء المتة ..!!
لا رائحة للياسمين ،لا زقزقة للعصافير ..!!
ماذا يحدث ..أمر مرعب !!
وفجأة انتصب” مادو” أمامي حدق فيّ واندفع نحو رجلي يتمسح بهما ثم نظر بانكسار إلي..
“مادو..مابك؟!”
مادو، الكلب الذي استقدمناه إلى هنا قبل سنوات هرم بعض الشيء ظننت أنه هجر المنزل بعد رحيل أمي لكنه ها قد عاد فجأة ..!!
يعدو ” مادو” فرحاً في أرض الدار ، بين الحشائش
أدخل المنزل لأعدّ نفسي للعودة إلى المدينة.
أمي تقف عند كل باب من أبواب الغرف الثلاث لي ،الآن ثلاث أمهات أي واحدة منهن أعانق؟! اندفعت نحو الأقرب .
لكن اصطدام رأسي بطرف الباب تلاشت أمي ..صرخت :
“أمي..أمي..!!” يتردد صدى صراخي في المنزل.
عندما وقفت بانتظار الحافلة على الطريق العام لأعود إلى المدينة وجدت”مادو” بجانبي توقفت الحافلة ، هممت بالصعود مادو يتمسح برجلي أصعد الحافلة وأستقر في مقعدي مادو ينظر إلى الحافلة ثم أراه من النافذة يعود ببطء باتجاه المنزل !!
عيسى إسماعيل