أجمل ما في الوجود ( مقالات في الحب والشعر والوطن)

ما يقارب الساعة تقريباً استطاع الدكتور جودت ابراهيم أستاذ النقد الحديث في كلية الآداب جامعة البعث أن يشد انتباهنا لمقالاته الشيقة التي لخص فيها نظرته لمفردات الحياة من حب وشعر وحرب خلال محاضرته في فرع اتحاد الكتاب العرب بحمص والتي اختار أن يعنونها ب :»أجمل ما في الوجود.
في وجه (مرتين فييرو)
أرى وجه الفارس العربي
بدأ الدكتور ابراهيم حديثه بسرد قصته مع ديوان الشاعر الأرجنتيني (خوسه أرناندس) المعنون ب (مرتين فييرو),وهو أشبه بقصة وطنية أرجنتينية، ترجمت إلى عدد كبير من اللغات الأجنبية.يعالج خوسه أرناندس في ديوانه هذا مشاكل اجتماعية، ونفسية هامة جداً، في حياة الأمم، فنلمح سخطه على الإقطاعية، والعسف في الأحكام الجائرة، وتحقير إنسانية الإنسان، وكل ذلك بجمال شعري، في التعبير عن الغاية وبدقة متناهية في الوصف وبحقائق نيرة يقولها أرناندس على لسان بطل قصته (مرتين فييرو):
في كل طريق اجتازها سواي
أنا مرتين فييرو سأمر بها
لا شيء يصدني عن عزيمتي
ولا الأشباح سوف تخيفني
وحيث يجلس كل منشد
أنا أيضاً أجلس لأغني
منشداً سألفظ أنفاسي
ومنشداً سوف يدفنوني…
و(مرتين فييرو) يمثل (الغاوتشو)، الذي يذكّرنا ـ كثيراً ـ بالفارس العربي الجاهلي، يذكرنا بعنترة العبسي وبعروة بن الورد، يعرف حقّه، ويدافع عنه، ولا يتنازل عنه لأحد مهما غلا الثمن، وبلغت التضحيات:
أنا (غاوتشو) فافهموا لغتي
وكما تدل عليّ لهجتي
طالما وجدت البسيطة ضيقة
وطالما أردت أن تصبح أوسع
فلا الأفاعي تقرب مني
ولا الشمس تلفح جبهتي
* * *
شهادة حسن سلوك
وفي المقالة الثانية التي قرأها المحاضر استحضرها من حديث جده عن أفضلية شهادة حسن السلوك على الشهادة العلمية في مدارج الحياة والقصة تلخص طريقة تعامل رجلين مع عبادة الأصنام .
أجمل ما في الوجود
أما في المقالة الثالثة التي قرأها الدكتور جودت فقد لخص قصة فنان قضى بضع سنوات يسجل بريشته الجمال حيث كان… ولكنه لم يقنع بما أبدعته ريشته من لوحات، وراح يبحث عن أجمل شيء في الوجود ليرسمه. وأثناء بحثه قابل رجلاً من رجال الدين فحدثه عن بغيته وسأله عن رأيه، فقال له الرجل: «أجمل ما في الوجود الإيمان ,وواصل الفنان بحثه فصادف زوجين حديثي العهد بالزواج … فوجّه إليهما السؤال نفسه: فأجابا: «أجمل شيء في الحياة الحب»…
وسار الفنان في طريقه يواصل البحث، فرأى جندياً متعباً يجلس على شاطئ البحر ساهماً، فحياه وراح يحدثه، فلما فهم الجندي أمنيته، قال له: «إن السلام يا سيدي ـ أجمل شيء في الوجود.. وأطرق الفنان وهو يتمتم:
«الإيمان والحب والسلام… ترى كيف أصورها؟».. وعاد إلى البيت وهو مكدود الذهن من التفكير، ولكنه ما أن دخل عتبة البيت حتى وجد بغيته.. ففي عيون أطفاله رأى الإيمان مجسماً، وفي بسمة زوجته رأى الحب ناطقاً، وفي أرجاء البيت كان السلام الذي حدثه عنه الجندي.
فرسم الفنان صورة أجمل شيء في الوجود وعندما فرغ منها سماها (البيت)…
ومن الحب ما قتل
وفي المقالة الرابعة تحدث المحاضر عن درجات الحب وهي :
الهوى، العلاقة، الكلف، العشق، الشغف، الجوى، التيم، الهيام، الصبابة، الوجد، الدنف، الود، الوله، … وغير ذلك.ثم فند كل معنى بمفرده وتحدث عن الغزل العذري والحسي لدى الشعراء ودوافع كل منهما وبين أن الغزل العذري هو المظهر الفني للعواطف المتعففة والملتهبة في آن معاً، والتي وجدت أن هذا التعويض الفني هو خير ما تطفئ به لهيبها وتتسامى به في غرائزها، ومن أروع القصائد التي قيلت في الغزل العذري في رأيه قصيدة الشاعر جميل بن معمر العذري التي يقول فيها:
إلى اليَومِ يَنمي حُبُّها وَيَزيدُ عَلِقتُ الهَوى مِنها وَليداً فَلَم يَزَل
وَأَبلَيتُ فيها الدَهرَ وَهوَ جَديدُ وَأَفنَيتُ عُمري بِاِنتِظارِيَ وَعدَها
أما الشكل الآخر للحب هو ذلك الحب العابث اللاهي، فهو مغامرة عابرة يمكن أن تتكرر دائماً بل تصاغ حين تصاغ لكي تتكرر مرة أخرى دون أن تحمل معنى التجربة العميقة الكاملة ،على حين أن الحب عند العذريين تجربة إنسانية نادرة فريدة لا تتكرر ولا يمكن أن تتكرر لأنها تقوم على الانجذاب المطلق نحو إنسانة واحدة، وبذلك يكون الحب العذري قد جمع بين مفهومين مفهوم الحب ومفهوم العفة، أما الماجن هذا فقد أهدر ذلك المعنى الاجتماعي للحب ذلك أن الحبيب يركز فيه حول ذاته وحول حب كل قواه الداخلية، فيظهر حبه متخماً بكثرة من النساء المحبوبات,واستشهد بأبيات لشاعر الحب الماجن عمر بن أبي ربيعة:
ليت هنداً أنجزتنا ما تَعدْ … وشَفَتْ أنفسنا مما تَجِدْ
واستبدتْ مرة ً واحدة ً، … إنما العاجز من لا يستبدْ
اغتربوا تُنجبوا
كما تحدث المحاضر عن أهمية الزواج من خارج العائلة مستشهداً بكلام الخليفة عمر بن الخطاب فقال:يُحكى عن الخليفة عمر أنه نظر إلى قوم من قريش صغار الأجسام، فسألهم: ما بالكم صغرتم.؟ أجابوا: قرب أمهاتنا من آبائنا، فقال: صدقتم، اغتربوا وتزوجوا من البُعداء تُنجبوا.
كما بين في مقالة اخرى أن الطبع يغلب التطبع .وأن هناك الكثير من الحكم غير المعمول بها مثل :زرعوا فاكلنا ونزرع فيأكلون .
الفراسة عند العرب
وأسهب المحاضر في حديثه عن علم الفراسة عند العرب فقال: تعد الفراسة من الخصائص المتميزة التي اشتهرت بها بعض الشخصيات العربية. وقد عرّف الألُّوسي (علم الفراسة) في كتابه (بلوغ الأرب) بأنه الاستدلال بهيئة الإنسان, وأشكاله, وألوانه, وأقواله على أخلاقه وفضائله, ورذائله.
غير أن الفراسة لا تقتصر على كشف ما خفي من الطبائع البشرية..بل تشمل أيضاً كل ما من شأنه استنباط الحقائق, والمعلومات الخفية من الحقائق, والفراسة ضرب من الظن…وهي من توابع العقل..وكلما كان العقل أكمل كانت الفراسة أقوى..ولهذا كان العرب فيها أوفر نصيباً من غيرهم.
ومن أشهر مأثورات العرب عن الفراسة أن نزاراً بن معد بن عدنان أنجب أربعة أولاد, هم مضر, وربيعة, وإياد وإنمار. ولما حضرته الوفاة وصّاهم فقال:
يا بني: هذه القبة الحمراء وما أشبهها لمضر, وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة, وهذه الخادمة وما أشبهها لإياد, وهذه الندوة ـ أي المجلس ـ وما أشبهها لإنمار, فإن أشكل عليكم واختلفتم, فعليكم بالجرهمي, بنجران.وقد اختلف هؤلاء ـ طبعاً ـ في القسمة, فتوجهوا إلى الجرهمي,وقد أفادوا من التجربة التي حدثت معهم في تقسيم ثروتهم بينهم كما أوصى والدهم, وقد قصد المحاضر من خلال تلك السير والاحاديث أنها لا تزال قادرة على أن تكون منهاج عمل يمكن الأخذ بها حتى في يومنا هذا فكانت محاضرة شائقة ممتعة وذات فائدة.