المواجهات بين المرأة الثائرة والمجتمع الفاسد تناولتها القاصة عبير كامل اسماعيل في مجموعتها القصصية ( زمن البخور ) ووظفتها في قصتين بطريقة مبتكرة نادراً ما تتناولها القصة القصيرة السورية النسائية المعاصرة . وقد نجحت الكاتبة في معالجة هذا الموضوع بطرق جديدة اتسع فيها مجال الرؤية والرؤيا بعكس القص الشائع الذي يغلب عليه السطحية والسذاجة لدى معالجة قضايا المرأة وشؤونها ،حيث يغلب تكرار وإعادة الأطروحات التي تتمحور حول تعرض المرأة للقمع والتهميش من قبل الذكور دون إضافات تحتوي على شيء من التجديد على صعيد المضمون والموضوع ، أو النظر في زوايا غير معهودةويجب الانتباه الى أن ثورة المرأة هنا ليست ضد القوانين ، بل ضد الأعراف المتوارثة وليست ضد الذكور فحسب بل أيضاً ضد النساء اللواتي تبنين وجهة النظر الشائعة التي ترفض خروج المرأة عن الخطوط الحمراء التي وجدت نفسها محاطة بها دون التفكير في اسباب وضعها ومبرراتها . وهذا يذكرنا بالزنوج الذين كانوا يحاربون أقرانهم تحت ألوية البيض كي لا ينال العبيد حقوقهم .
المرأة الجادة في مجتمع الكسلى
في قصة ( انها لا تستحق ) مروية بضمير المتكلم ، والراوي هو رجل رغم أن بطلة القصة امرأة وربما اختارت القاصة شخصية الرجل دون المرأة لأنها تريد تقديم صورة المرأة في عيون المجتمع عامة – مع إدانة تلك النظرة – بينما أبقت ضمير المتكلم في القصة السابقة للمرأة لأنها تريد تقديم صوت امرأة صريحة جريئة لاتريد لبس الأقنعة لتنال رضا الجميع . وهذه البطلة ثائرة تبحث عن الحب المثالي الذي لا وجود له في حياتها فتقول :ماذا تريد امرأة مثلي ؟! هل تكفيها الأضابير والورشات والعمل لتتوج حياتها بالكمال ، هل سألتم أنفسكم كم مرة جلت أسواق المدينة أتسول نظرة حب؟!كم مرة رددت كلمات غزل جعلتني لم أعد أفرق بين المصلحة والشهوة والحب ؟ كم مرة احتجت يدين تنهضاني عند كل سقطة فلم أجد سوى ابتسامات مجاملة فارغة ، وأيد تزيد في الحفر حول قدمي في الخفاء ) وإذا كان العيب من وجهة نظر المحيط الاجتماعي في القصة السابقة هو تشوه جسدي في إحدى قدمي البطلة التي لم تختر هذا الأمر ، فإن بطلة هذه القصة اختارت بنفسها الاختلاف ، وهو أن تعمل بجد متحملة مشاق العمل ، ومتجاوزة التفاصيل الصغيرة المسيطرة على حياة بنات جنسها ، لهذا تم اتهامها بأنها ( مسترجلة ) فالمجتمع الذي تحكمه النمطية يرفض الخروج عن التقاليد المتبعة دون إعمال العقل في ذلك حتى أنا الذي لم أشارك في أي حديث يثار ضدها ، لم أدافع عنها ، وكأني تآمرت معهم صمتاً ، وهللت خفية لاتهاماتهم )
ترفض هذه المرأة الرجل الذي تقدم لخطبتها ، مثل بطلة القصة السابقة ، رغم الاختلاف الكبير بين أوضاع المرأتين ، فقد رفضت بطلة هذه القصة الرجل الذي عرض عليها الحب لأنها لم تجد الحبّ الذي تبحث عنه ، فتقول : ( إني اكره الحب الذي يأتي بقرار مسبق ، وبدراسة تاريخية وبوليسية للمحيط الذي سيعيش فيه ) ص 45 وقد نجحت الكاتبة في تحاشي التبشير المفتعل ، فلم تقدم بطلتها كنموذج يرفع راية الإيديولوجيات النمطية ، بل كحالة إنسانية في نطاق التجربة الخاصة ، رغم ما تختزله من معان كبيرة تتجاوز الأطروحات الفردية المغلقة على نفسها .
ورغم أن القاصة عالجت موضوع المرأة فإنها لم تسقط في خانة النمطية المكررة في مثل هذا النوع من القص ، فهي عالجت قضية النساء ومشكلاتهن دون عزلتهن عن المحيط الاجتماعي من حولهن . ودون إغفال الأبعاد النفسية ، والاقتصادية والسياسية أحياناً أخرى . وذلك سرد شفاف يجنح إلى الشعرية ، ولكن دون الإفراط في ذلك ، فالسرد مشغول بطريقة تناسب عناصر القص الذي تعمل عليه الكاتبة ضمن بساطة وعفوية انحازت إليها دون فقدان حساسية سردية مقنعة ، أو عمق فكري معقول ، وذلك بعيداً عن المباشرة في الطرح ، بل كثيراً ما اقتربت من لغة الشعر حتى تحولت بعض سطور القصة إلى مقاطع شعرية لم تنفر من السرد القصصي ، بل أتت موظفة بمهارة ضمن السياق مما أغنى النص وأثراه ، دون أن يعيق بناءه الدرامي ، أو يعرقل حبكته المنضبطة.
سامر أنور الشمالي
المزيد...