لا تخلو قصائد الشعراء من حنين جارف إلى الطبيعة البكر وتفاصيل الريف الجميل خاصة إذا ما كان يعاني من غربة موحشة في المدينة ,فالشاعر العربي المعاصر كان يتشوق للمجيء إلى المدينة ظنا منه أنها قادرة على تحقيق حلمه ولكنه ما إن ولج أبوابها حتى أثقلت كاهله الزحمة والعلاقات الاجتماعية الباردة, مما جعله يستحضر مفردات ذاكرته المتعلقة بقريته في معظم نتاجاته الشعرية ففاض به الحنين إلى الفضاءات الريفية التي افتقدها وإلى السهرات تحت ضوء القمر ,وإلى مناجاة الحبيبة التي تشبه الطبيعة بعيداً عن التصنع ..إلى كل شيء جميل لم تعبث به يد الانسان لهذا نرى الشعراء المعاصرين يغمسون أقلامهم في طهر الكلمات لتولد قصائدهم معمدة بالبوح برائحة البخور المنبعث من معابد النقاء والبياض الروحي ولعل قصيدة السياب في قريته جيكور خير دليل على هذا الكلام فيقول فيها : تعبت من تصنع الحياة / أعيش بالأمس وأدعو أمسي الغدا/ فكأنني ممثل من عالم الردى /تصطاده الأقدار من دجاه .
الأرض البكر
إن حنينه هذا يدل على عدم تأقلمه مع حياة المدينة التي طالما حلم بها وتتمزق روحه لأنه لم يستطع أن يتكيف مع هذه الحياة الجديدة المثقلة بالأعباء , وعنده أمنية وحيدة أن يعود إلى طفولته الأولى التي عاشها في جيكور : فيقول: طفولتي صباي أين ….أين كل ذلك أين حياة لا يحد من طريقها الطويل سور كشَّر عن بوابة كأعين الشباك تفضي إلى القبور .
هذه الحسرة على حياة الطفولة والصبا تدل على تعلق الشاعر بماضيه ,وتمنياته أن يعود ذاك الزمان ليعيشه من جديد لهذا عندما يعود إلى القرية ويرى ما جرى فيها من تغيير نتيجة التطور الزمني يصرخ بملء صوته لماذا ؟وكأنه يريد لهذه القرية التي تركها منذ سنوات أن تبقى كما الطبيعة البكر علماً بأن التطور حالة صحية وصحيحة ولا بد منها فيقول: جيكور ماذا ؟ أنمشي نحن في الزمن أم أنه الماشي /ونحن فيه وقوف /أين أوله وأين آخره / هل مر أطوله / أم مر أقصره الممتد في الشجن ..
الخوف من الزمن
فهو يسأل جيكور ليتأكد أن الزمن يمشي دون أن يعبأ بما نريد وهذا ما ولد لديه الخوف من القادم ألا وهو الموت والفناء فيقول: وهيهات …ما للصبي من رجوع إن ماضيّ قبري / وإني قبر ماضيّ ؟ موت يمد الحياة الحزينة / أم حياة تمد الردى بالدموع .
نلاحظ أن الشاعر المعاصر موزع ما بين قريته التي يحن إليها وما بين المدينة التي لم يستطع أن يتحقق أحلامه فيها لذلك نلاحظ مسحة حزن تغلف شعره نتيجة القلق النفسي الذي يعاني منه والذي أفضى به إلى طرقات الغربة والخوف من القادم «الموت» الذي لا مفر منه لكن لا حيلة له أمام مرور الزمن الذي يتقدم بسرعة لا يرحم فيحاول الشاعر أن يمسك اللحظة الهاربة وفي هذا يقول صلاح عبد الصبور في ديوانه شجر الليل : هل تقدر أن تمسك باللحظة وتكبلها في قيد الوقت حتى تتأملها في خلوة أو تسمعها في صمت .
ربما أن الأمور كلها صارت خارج سيطرة الشاعر لذلك نراه يقر بالحقيقة المرة التي يعيشها وبالموت المخيف الذي ينتظره حيث لا احد يعرف بموته ,ولا أحد يبكيه في زحمة المدينة التي قهرته : يا زحمة الموت المنهمرة /أموت لا يعرفني أحد /أموت لا يبكي أحد. وهذا يعكس صورة الوحدة والغربة القاسية .
وللخروج من هذا الواقع المؤلم لا بد للشاعر المعاصر من الهروب عبر الحلم والأمل فقد تزهر الأحلام في زمن الصقيع وفي هذا يقول السياب : على جواد الحلم الأشهب /أسربت عبر التلال /اهرب منها من ذراها الطوال / من سوقها المكتظ بالبائعين /من صبحها المتعب من ليلها النابح بالعابرين …من نورها المغيب من دربها المغسول بالخمر.. من عارها المخبوء تحت الزهر / من موتها الساري على النهر .
فهل يبقى الشاعر المعاصر حبيس هذا القلق أم أنه سيبحث عن منافذ للضوء تعيد إلى حياته الألق وإلى أرضه البور الخصب والنماء وفي هذا يقول ادونيس :
وعرفنا من العشب أن الطبيعة ستقيم السلام / بين أطفالنا والفجيعة /ستكون شرايينهم كالجذور /وتشق الصقيع وتصير جبالاً من الضوء وردية الجسور .
ميمونة العلي
المزيد...