«وصوليات،خائنات،ساذجات» بطلات قصص «على شفا حب»

كمية الإيجاز والتكثيف ووحدة الموضوع صفات تميّز كتاب الدكتور نزيه بدور «على شفا حب «,والكتاب مجموعة قصصية مؤلفة من خمس عشرة قصة على مدى مئة وخمسة وعشرين صفحة من القطع المتوسط .يتّبع فيه الكاتب أسلوب المذكرات بتداع سلس .يقنعنا بوجهة نظره بأسلوب ماتع يلغي الإحساس بالزمن مما يجعلك تتناول الكتاب جرعة واحدة دون ان تشعر أن ساعات مرت وأنت تسترق النظر والسمع إلى شخصيات الكاتب التي تعكس ذاتيته ,فقد كان البطل أستاذا جامعيا في أكثر من قصة ,ومتورطاً بالشعر ويقترف الألوان في أحايين أخرى ,وهذه صفات الدكتور بدور ذاتها نجدها متناثرة هنا وهناك في أرجاء شخصياته القصصية ,والسرد تأريخي من لحظة العرض إلى لحظة التنوير,ولا يبدو الشكل الفني هاجسه بل يأتي عفو الخاطر ملائما للفكرة التي يرغب بدور إيصالها للمتلقي بلغة الشاعر أحيانا وبريشة الفنان احيان أخرى فكم اشتغل على خطوط شخصياته وكم أضفى عليها لغته الشعرية دون تكلف بحسب ما يقتضيه الموقف السردي ليحقق توازناً فنياً يقنع المتلقي ويثير لديه جموح التأمل واجتراح الحلول لشخصيات مأزومة من حبر وورق .
العتبة الأولى
الشعرية واضحة منذ العنوان وهو كما تعلمون العتبة الأولى لأي نص وقد عنون الكاتب مجموعته بهذا العنوان دون أن تكون هناك قصة تحمل هذا العنوان داخل الكتاب كما درجت عليه العادة عند بعض الكتاب ,وهو عنوان يلخص حالات الحب الفاشلة بدلالة شعرية تعتمد المفارقة في مصير الشخصيات تماماً كما في الخاتمة التي تترك مسافة للمتلقي يكوّن من خلالها موقفه الذاتي من البطل ,يشجعه على ذلك ثقافة الشخصيات النخبوية فالبطل مثقف يوظف قصائد نزار قباني ولوحات بيكاسو وقصص بوشكين ضمن واقعية رمزية تشرك المتلقي في صناعة الحدث حيث يشتغل القاص على عرض هموم الواقع الثقافي المعيش للمثقفين المهزومين ,ولعل تكرار شخصية الأستاذ الجامعي المأزوم من واقعه تجعلنا ندرك أن التجربة الذاتية أعظم قيمة من أي تجربة أخرى خاصة مع استعمال ضمير المتكلم في أكثر القصص لذلك يصوغ القاص بدور الفكرة من الحدث محور القصة فيسرد الحادثة المعيشة متضمنة الفكرة والهدف المرجو وهو هدف خالص لوجه الفن من أجل تعرية واقع الزيف الذي يلف حياتنا بسبب الفساد في الجامعة التي تشكل الفضاء المكاني لمعظم القصص كما ذكرنا ,أو بسبب كمية الهباب الثقافي المنبعث من أجواء المثقفين .
وصوليات
الوصولية صفة تلون شخصيات غير قصة كما في قصة «صحوة» فالبطلة التي تحضر الدكتوراه في الهندسة تنهي علاقتها بالبطل الاستاذ الجامعي الذي سفح كل إمكانياته العلمية كرمى عينيها بعد مناقشة الرسالة تماما فقد تنبهت فجأة لشعره الأبيض ولإلتزامه بزوجة روسية وأن لديه ابنة تدرس في كلية الطب فقررت نسيان حبه مع انتهاء مصلحتها معه وهذه الوصولية في شخصية طالبة الدكتوراه نجدها تتكرر في شخصية الصحفية التي تعمل عملا إداريا في إحدى الشركات وتتطلع للإنتقال للعمل الصحفي في مجلة واسعة الإنتشار لتبني علاقة حب مؤقتة مع مدير التحرير في قصة «كرسي الرجل الليمونة» وهي تستمر بعلاقتها معه دون الإكتراث للأقاويل إلى أن يحال إلى التقاعد فتتردد بالاتصال به لمواساته فتقول: ص 111:» ماذا سأقول له لو كان سُرِّح فعلا ؟ترى هل سيتابع اليوم أيضا غزله الممجوج لي بالهاتف ؟!مللت تلميحاته وبذاءاته,ليته كان يحترم سنّه .
أعادت الهاتف إلى حقيبة يدها …تخيلت هيئته وهو يغادر كرسيه العزيز ,تراءى أمامها أصفر اللون ,بديناً قصير القامة ,أصلع الرأس ,قالت لنفسها كيف لي أن أحب رجلاً متقاعداً وانا أملك مفاتيح المستقبل .
ثم تنتهي القصة على لسان الكاتب العارف بخفايا نفسها ليكتب :»ثم انكبت متابعة تحقيقها الصحفي باندفاع ,آملة ألا تقل مكانتها في نفس المدير اللاحق عما كانت لدى سابقه.
خائنات
النموذج الآخر لنساء القاص هن الخائنات في أكثر من قصة يقابلها رجل مأزوم غير آسف على شيء بذله في سبيل تلك المرأة طالما تعّرت حقيقتها قبل فوات الأوان كما في قصة :»معادلة حب متعددة المجهولات « حيث يصرح الرجل المخدوع أمام حبيبته التي يغدق عليها الهدايا ويكد في سبيل تجهيز ظروفه للزواج يصرح لها أنه حاليا غير مستعد للزواج فيفاجأ بجرأتها واتصالها أمامه بأحد الأشخاص تعلمه بأنها قادمة إلى دمشق غداً وبأنها موافقة على دعوته للغداء لها إذا ما فعل ,كل ذلك بصوت ناعم هادئ مغناج بعد أن كانت تجأر في وجه البطل قبل قليل رافضة عذره الغير مقبول لديها فيقول:ص 117في ركن لقاءاتهما التقليدي كان كل شيء يعبر عن انتهاء المقابلة ,لملمت أشياءه المتناثرة على الطاولة ,التمعت في معصمها ساعة ثمينة كان قد أهداها إياها ذات وقت ..مضت دون كلمة وداع ….ظل متسمراً في مكانه وحيداً أعزل إلا من حقيقة كان قد عرفها اللحظة.ويتابع الكاتب في تعرية الخائنات كما في قصة «الليلة الاخيرة «حيث البطل مهزوم أيضا يقرر الانتحار بعد أن عرف عن طريق المصادفة المحضة أن مدير تلك الشركة العملاقة يقيم علاقة حميمة مع زوجته «رولانا»الموظفة في الشركة كمستشارة فنية ,فالبطل لم يطلق النار على امرأته أو على مدير الشركة كما درجت العادة في واقعنا الشرقي ,بل قرر أن تكون تلك الليلة هي الليلة الأخيرة التي سيرى فيها الفجريقول:ص 53 صعد إلى غرفة النوم كانت رولانا نائمة بين طفليها في هدوء وطمأنينة,رنا إليها فوجدها جميلة أكثر من أي وقت مضى ,تذكر العبارة التي قيلت بحقها (إنها أشبه بقصيدة),لثم خد ابنه البكر ثم تحول إلى خد ابنته ليقبلها …..ثم حوَّل نظره إلى النافذة ليشاهد انبلاج الفجر لآخر مرة . والخيانة موجودة في قصة «إهداء « حيث يساعد البطل خطيبته في طباعة ديوانها الشعري الاول ثم تغرق في سيل من المديح وحضور حفلات توقيع الكتاب وتستمر في التغيب عن عملها وهو يقوم به بالنيابة عنها كونه زميلها في العمل لكنها في زحمة أضواء الشهرة المزيفة ,تنسى أن تخط لخطيبها إهداء خاصا به على نسخة من ديوانها هذا الذي ما كان ليرى النور لولا دعمه , فيقرر نسيان خاتم الخطوبة في زاوية مهملة من خزانة المكتب الذي كان يضمهما معاً كخطيبين وزميلين في العمل .
ساذجات
ويتابع القاص بدور قصصه في تعرية نماذج قاتمة للمرأة السلبية فيبين في غير قصة سذاجة المرأة المثقفة أو المدعية للثقافة في محاولة لتعرية الواقع الثقافي بكل عُجره وبُجره ,كما في قصة «وأد» حيث العريس المثقف الشاعر الستيني الغني الذي تزوج من تلك الشاعرة الأديبة المطلقة من زوجها السابق لأنه لم يكن يشجع موهبتها, وقد وعدها عريس التستسترون الثقافي أنه سيوصلها إلى جائزة نوبل للآداب بتشجيعه واهتمامه وأنها كانت ساذجة لدرجة صدقته , وتزوجت منه لتجده في صباح العرس يحفر حفرة في حديقة منزله الجديد ليدفن فيها أوراقها ومخطوطاتها وعندما اعترضت لم يتردد في الايضاح لها بأن تلك الحفرة تتسع لها أيضا إذا ما استمرت في الاعتراض فيقول:ص 95 «لست ادري كيف ضيعت من عمرك عشر سنوات مع زوجك السابق ,الذي لم يقدر موهبتك ..لو كنت زوجك بتلك الفترة المديدة لحصلتِ على جائزة نوبل للآداب بفضل دعمي لك ومساندتي « طبعا هذا قبل الزواج أما بعده فيقول ص 96 «رأت وجهاً لا يشبه الوجه الذي كان يرتديه سابقاً .قال لها بصوت يشبه قرقعة الآلة الصدئة :اصمتي وإن شئت ففي الحفرة متسع من المكان لك أيضاً.»ونتابع مع الساذجات المثقفات بطلات قصص «على شفا حب» ففي قصة «صباح الخير أيها الوهم « بطلة القصة كاتبة أهدت مخطوطاً لها لأديب معروف كي يقرأه لها وهو حبيبها الروحي الذي تقيم معه علاقة ما فهي مخطوبة للدكتور جورج الذي لم يستطع تشخيص عوزها لأديب كبير يفهما ويشجعها فتسافر إلى هذا الأديب من القامشلي إلى دمشق وتذهب للقاء الاديب الكبير الطاعن في السن وفي تعدد العلاقات الثقافية المشبوهة و لكن للأسف لم يفتح لها الباب ولم يرد على اتصالها وعندما اتصلت بصديقة مشتركة بينهما فوجئت بالقول: ص 21 «اطمئني ..إنه في صحة جيدة …لكنه مشغول بضيفة جميلة من لبنان وأضافت بخبث :لقد أتينا على ذكرك ليلة البارحة ,اتهمته السيدة اللبنانية بأنه أضحى في الآونة الأخيرة منخفض الذوق في اختيار النساء ,وهذا من علائم انحسار الشعرية . « لتنتهي القصة بالتاكيد على سذاجة هذه العاشقة المثقفة بخسارتها لخطيبها الذي أهملته مراراً وتكراراً فسافر للعمل خارج البلاد وتستمر سذاجة البطلات من خلال بطلة قصة «فروسية معاصرة « حيث البطلة تستنجد بثقافة محبوبها لكي ينتقم من زميله سعيد الذي وصفها بالجارية في بلاط حبيبها فتقول له ص 70 «إلمامك بالادب الروسي كاف لأن يذكرك بفروسية بوشكين كيف دفع حياته ثمنا لشرف حبيبته حين دخل في مبارزة غير متكافئة مع رجل اهانها .»وهكذا اتصل حبيبها بصديقه سعيد وتوعد وهدد وزمجر ثم انهى مكالمته معه بكثير من الغضب لتكافئه هي بالحب والحميمية وتخرج من مكتبه بعد أن تواعدا على حضور امسية موسيقية في الساعة الثامنة يوم الخميس لكنه يتخلف عن موعدهما كرمى الموعد المعتاد مع رفاقه للعب الورق مع سعيد وشلته وبهذا تكون البطلة أيضا ساذجة بما يكفي لأن تجعل القارى يعتقد ان القاص يختار نماذجه النسائية من واقع يحكمه الزيف بأداة ثقافية .
ميمونة العلي

المزيد...
آخر الأخبار