القصة القصيرة جداً صنف أدبي جديد جذب آلاف الأقلام للخوض في مضماره الإبداعي مع النصف الأول من القرن الماضي برز إلى الساحة الأدبية فن القصة القصيرة جداً كصنف جديد من الأصناف الأدبية ورغم انه لاقى في بداياته استهجانا بسبب ميله للاختصار لكنه مافتىء أن أصبح واحدا من أهم الأصناف التي تميز أدبنا العربي في الوقت الحالي جاذبا إليه آلاف الأقلام للخوض في مضماره الإبداعي 00
عن هذا الصنف وواقعه ونشأته وابرز كتابه في الوطن العربي يعرف الدكتور محمد ياسين صبيح رئيس رابطة القصة القصيرة جداً في سورية القصة القصيرة جداً بأنها قصة تحوي حدثاً وشخصية تكتب على مساحة سردية ضيقة جداً، ولا يمكن فرض أي عدد كلمات أو أسطر، إنما ظروف كل قصة تفرض مساحتها وطولها، بشرط ألا يصيبها الترهل وأن تبتعد عن التقريرية، من خلال الإكثار من الوصف والشرح والتعبيرات الذاتية المرافقة والتي عادة تترك للقارئ لأخذ تأويلاته المتعددة، وأن تتمتع بالإيحاء الضروري لإخراجها من تقليد الواقع دون صياغة أدبية مناسبة00 وأضاف أن هذا النوع الجديد شكل هاجساً لدى النقاد الذين راحوا يبحثون عن تعاريف له محاولين حصره في قوالب محكمة وهو مايقتله فوصفوا القصة القصيرة جداً بالانزلاقية، والتطورية لأنها يمكن أن تواكب تطورات العصر التكنولوجية والإبداعية دون أن تفقد بريقها، ومن هنا فإن حصرها بتعريف واحد يفقدها ماهيتها، فهي حالة إبداعية خاضعة لذاتها من خلال تهيئة الوسط السردي والدلالي المناسب لها والذي يفرضه الحدث وهي تعتمد على الإيحاء والفكرة و الوحدة والتكثيف السردي و الشاعرية 00 وعن أبرز كتاب القصة القصيرة جداً في سورية والوطن العربي والعالم عبر العصور الزمنية بين صبيح أن أولَّ ظهور لها كان مع الكاتب الأمريكي الشهير إرنست همنغواي، عام 1925م، مع نصِّه الأشهر الذي عنونه بعبارة «قصة قصيرة جدًّا»، ولم تتجاوز عدد ألفاظها ست كلمات وفحواها «للبيع، حذاءٌ لطفلٍ لم يُلْبَس قطُّ»، ثم توالت بعدها كتابات مُشابِهة، عن كُتَّاب ينتمون إلى أمريكا اللاتينية من قبيل الكاتب الغواتيمالي (أوجوستو مونتيروسو)، والأرجنتينِيَّيْن (خورخي لويس بورخيس)، و(أدولفو بيوي كاساريس)، وكُتَّاب غيرهم. ورأى البعض أننتالي ساروت في كتابها انفعالات 1938، كتبت قصصا قصيرة جداً، لكن بالتدقيق في نصوص الكتاب تبين أنها لم تكن قصصا قصيرة جداً، بل يمكن اعتبارها فصولاً من رواية أو قصصا قصيرة.. لكن أول من نشر أقصر نص أدبي سردي هو الغواتيمالي الجنسية هندوراسي المولد أوغيستو مونتيرروس بعنوان (الديناصور) عندما أفاق، وجد الديناصور لا يزال هناك. وشرح أن ولادة القصة قصيرة جداً عربياً كانت في سورية والعراق وفلسطين، ويمكن اعتبار ما كتبه جبران خليل جبران في مجموعتيه:” المجنون” و” التائه”، كبدايات لمحاولة كتابة القصة القصيرة جداً، ثم تتالت المحاولات، حيث نشر القاص اللبناني توفيق يوسف عواد مجموعته القصصية :” العذارى” عام 1944 ونشر المحامي العراقي يوئيل رسام قصصا قصيرة جدا، وكذلك فعل العراقي شكري الطيار في محاولاته الأولية، 00 أما في سورية فأول من حاول كتابتها طلعت سقيرق وعزت السيد أحمد ونور الدين الهاشمي وضياء قصبجي ونبيل جديد ويوسف حطيني و غيرهم، وهذه تعتبر جذور نشوء هذا الجنس الأدبي سابقاً، ولكن لا يمكن اعتبارها كنموذج نهائي لها، بل محاولات اقتربت أحيانا من مفهومها وابتعدت أحياناً، وبالتالي لا يمكن لأحد الادعاء باكتشافه حديثاً أو التفرد باكتشاف أساليب الصياغة التكثيفية، إنما يمكن القول أن البعض ساهم في تطورها، كما في كل الانتاجات الإبداعية، حيث تتراكم الخبرات والتقنيات، التي تساهم في تطور المكون الإبداعي المعني 00 غير أن أعمال الرواد الأوائل لم تكتمل بلورتها كقصة قصيرة جداً بشكل بحت كما هو مفهومها اليوم، إنما كقصص مختصرة وسريعة حققت بعض الاختراق في القصة القصيرة العادية، وشكلت تحدياً قصصياً يستوجب الاختصار والتخلص من الإسهاب المفرط والوصف الطويل، لصالح الاختصار فقط، وبقيت تتعثر بتحديدها كجنس أدبي مستقل، يخضع لاعتبارات التكثيف والإيحاء والحفاظ على عناصر القص المعتادة، وكان نشوؤها نابعاً عن مواكبة السرعة الحياتية المتعلقة بالتطور التكنولوجي وبتطور أساليب الحياة، ومن خلال التأثر بالأعمال الأجنبية.. وهكذا تتالت المساهمات وخاصة في الوطن العربي وسورية حديثاً، فمن المغرب العربي كان حسن ركاطة و عبد الله المتقي وعبد الحميد الغرباوي و مصطفى لغتيري وجمال الدين الخضيري وعبد الرحيم التدلاوي وغيرهم، ومن مصر شريف عابدين ومنير عتيبة وشيرين طلعت وغيرهم، وجمعة الفاخري من ليبيا وممن نشر في سورية مجموعات قصصية قصيرة جداً، فكان الكاتب يوسف حطيني وعلي الراعي ويحيى أبو فارس حليس وفهد حلاوة وغيرهم، والكثير من كتاب رابطة القصة القصيرة جداً في سورية 00
وحول الفرق بينها وبين الأصناف الأدبية الأخرى وعلى ماذا تعتمد وما هو الذي يميزها بين صبيح أن مايميز الرواية عن القصة القصيرة جداً أنها تجربة تعبر عن تجارب إنسانية أو تعرض لحيوات متعددة ضمن حيز زماني متعدد الفترات ومكاني متعدد البيئات، وبالتالي فهي تتضمن شخصيات متنوعة وتستخدم الوصف لتعبر عن طبيعة الأشياء والأمكنة والشخصيات، وقد تستمر لعدة أجيال، أما القصة القصيرة فهي تعرض حكاية قصيرة بفترة زمنية محددة.
ويرى أحد النقاد الأرجنتينيين أن القصة عبارة عن حكاية قصيرة يمكن أن نقرأها في جلسة واحدة ، كما يرى أن القاص يضغط مادته لكي يعطيها وحدة نغم قوية ، وهو أن شخصية واحدة في القصة تكفي ، وأن القصة تلزمنا بموقف نترقب حل عقدته بفارغ الصبر ، لتأتي النهاية فجأة وفي لحظة حاسمة ، فالقصة من وجهة نظره لها تأثير كلي ، ويجب أن تتمتع بقوة الاندفاع وأن تكون كلماتها ثملة بالمعنى وبأكبر قدر من الإيحاء أما الكاتب الإنجليزي هـ . ج . ويلز فيرى أن « القصة القصيرة هي حكاية تجمع بين الحقيقة والخيال ويمكن قراءتها في مدة تتراوح بين ربع ساعة وثلاثة أرباع الساعة ، وأن تكون على جانب من التشويق والإمتاع « ، بحيث تربط القارئ ربطا يثير فيه الشعور بالمتعة والرضا . إنها قصة لا تظهر من خلال الاندماج والتواجه مع الأحداث اليومية ، ومداها محدود زمنياً. ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن تكون القصة القصيرة ملخصاً لرواية أو فصلا من فصولها ، فالرواية تهتم بالتفاصيل الدقيقة ، وتتعدد فيها الشخصيات والحوادث والمواقف وفيها مجال للإسهاب والتعبير عن الأفكار والآراء ، بينما تدور القصة القصيرة حول حادث معين أو عدد محدود من الحوادث التي تركز على فكرة أو هدف أو شخصية ، فهي ومضة ضوء تتركز على شيء خاص ، وتلتقي في هذه الناحية مع القصيدة الشعرية. وهذا ما تختلف عنه القصة القصيرة جداً فهي تصاغ بشكل وميض سردي مكثف في حدث سريع يتضمن قصة تدوم لفترة زمنية سريعة، أو يمكن أن تخترق المسافات الزمنية بلحظة.
وتوصل إلى أن ما تقدمه القصة القصيرة جداً من تقنيات وصور وملامح قصصية وتأويلية لا يمكن أن يقدمها أي جنس أدبي أخر، فالغزارة الإيحائية تتمثل في جملة واحدة تكثف الفكرة والمشهد، ليمتد في ذهن المتلقي واسعاً ليشمل مساحات هائلة من التعبير والأفكار، فكما الكون بدأ من كتلة مكثفة هائلة الكتلة وبالغة الصغر، بانفجارها ملء الكون بالكواكب والنجوم ولا زال يتمدد، هكذا هي ماهية القصة القصيرة جداً تبقى تتمدد في ذهن المتلقي إلى ابعد من حدود مساحتها وكلماتها لكنها لا تهتم بالمكان الفعلي بقدر ما تهتم به كأفق حاضر في ذهن الكاتب والمتلقي دائماً في الكون، وفي أية لحظة، سابقاً بالفعل الماضي، أو حاضراً بالفعل المضارع. على عكس الأجناس السردية الأخرى التي تهتم بالمكان كأحد المكونات المهمة لتفريغ الحدث بالتفصيل كما عند الرواية والقصة القصيرة. وبخصوص موضوعات القصة القصيرة جداً وأهدافها ومن تستهدف رأى صبيح أنه مع تطور العصر يمكن لهذا النوع الأدبي أن يشكل ملاذاً مناسباً للقراء والنقاد، ولذلك يترتب على كتابه الاهتمام بالشكل والمحتوى على أن يقدموا نصوصاً مميزة، ولا يستسهلوا أمر كتابته، لأنه لا يحتمل طرق السرد الأقرب إلى التحقيق الصحفي أو الخاطرة التي تشكل بوحاً مجانياً من هنا يمكن لكل فئات القراء أن يشكلوا الهدف المباشر لها ولكتابها، على عكس الشعر مثلاً الذي قد يوجه إلى بعض القراء.
وعن آفاق هذا النوع الأدبي ..وكيف ننميه عند الطامحين للكتابة فيه اعتبر صبيح أن الاهتمام الكبير الذي لاقته القصة القصيرة جداً كتابة وقراءة، سيؤدي إلى انتشارها أفقياً بشكل كبير جداً بين القراء، بعد أن حققت انتشاراً واختراقاتٍ مهمةً بين الكثير من الكتاب، فنرى مثلاً بعض كتاب الرواية، يجربون كتابتها، وحتى بعض الشعراء، وهذا أمر جيد، لأنهم بذلك يحققون نسبة قراءة كبيرة لدى الجمهور، لأن الروايات التي تحقق اختراقات في القراءة، هي التي تفوز بالجوائز الكبيرة المعروفة فقط، وغير ذلك قد لا ترى الرواية أي انتشار مهم، من هنا تأتي القصة القصيرة جداً لتحقق هذا الانتشار، وتسلط الضوء على الكتاب لكي يعرفهم الجمهور الواسع الذي يهتم بها. وفيما يتعلق بأهم المدارس أو الروابط التي تبنت القصة القصيرة جداً وما أسباب انتقادها شرح صبيح انه مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بالقصة القصيرة جداً ونشأت الكثير من الصفحات والمجموعات التي أصبحت تهتم بها، ومن هنا كان إنشاء رابطة القصة القصيرة جداً في سورية، في نهاية عام 2013، والتي ساهمت بشكل فعال في الاهتمام بكتابها وبفتح المجال لجميع الكتاب والنقاد بالمشاركة بالنقاشات وتبادل الآراء حول ماهيتها وأساليبها، وأدى ذلك إلى ظهور العديد من الكتاب العرب والسوريين الذين حققوا مستويات مميزة في الكتابة القصصية القصيرة جداً، والذين نشروا مجموعاتهم القصصية الورقية لاحقاً، وهذا عمل نفتخر به، وأيضاً لقد استفاد الجميع من الحوارات النقدية والأدبية التي أدت إلى صقل مواهبهم وصقل أساليبهم وأدواتهم، وهذا واضح جداً من خلال تطور كتاباتهم التي ينشرونها في مختلف الوسائل الالكترونية والورقية، وبالتأكيد نود أن ننوه إلى أن العمل ضمن الرابطة هو عمل جماعي، بمعنى الكثير يساهم بما يبرع به، فالبعض يقدم دراسات وقراءات نقدية والكثير يكتب قصصاً، وهناك العديد من الفقرات التي تقدم وتهدف إلى مشاركة الكتاب والنقاد في النقاشات وفي الحوار حول ماهيتها وأساليبها ومن ثم انتقلت الرابطة إلى العمل على الأرض من خلال تنظيمها ثمانية ملتقيات خاصة بالقصة القصيرة جداً في مختلف المدن السورية، وتم دعوة الكثير من الكتاب الذين ظهروا فيها، حيث شكلت هذه الملتقيات فرصة للتعارف بين الكتاب والنقاد، وساهمت بتأصيل وتأطير الأفكار والأساليب حول القصة القصيرة جداً,أما لماذا يقف البعض ضد ظهور القصة قصيرة جداً فهذا باعتقاده ناتج عن عدة أسباب وأهمها أن البعض لا يرغب في وجود تطور أدبي ما، ويركن إلى ما اعتاد عليه من رواية وقصة قصيرة، لأن باعتقاده الأدب نهائي بأنواعه، ولنفس الأسباب التي يرفض فيها نقاد الشعر الموزون الشعر النثري، وكذلك لأن البعض يعتبرها قصة يمكن أن تمتد إلى صفحة مثلاً، أو نصف صفحة، وهذا أيضاً ناتج عن عدم فهم ماهيتها وطبيعتها وهدفها.
وختم صبيح بالتنويه إلى أهم ماتتطلبه القصة القصيرة جداً من أدوات للنجاح تعتمد على انتهاج أساليب كتابة مختلفة عن القصة القصيرة، وعن الخاطرة، بإتباع التكثيف أسلوباً نحقق من خلاله طريقة ورؤية لتقديم الفكرة دون الإسهاب و الابتعاد عن الشرح والوصف، ويمكن الاعتماد على الأسلوب الشعري في الكتابة والاهتمام بالإيحاء المناسب الذي يحقق أسلوبا نبتعد به عن الأسلوب الإخباري أو التحقيق الصحفي و عدم تقييس القصة بأي طريقة أو صورة ما، بل أن نراعي رغبة الكاتب في التجريب.
أجرت اللقاء حنان سويد
المزيد...