الطب الشرعي قلم العدالة الحي ..وعالم لكشف أسرار الحياة والممات ..سبعة أطباء شرعيين في حمص والاختصاص مهدد بالاندثار
الطب الشرعي ..قلم العدالة الحي كما يصفه الكثيرون ,وهو عالم لكشف أسرار الحياة والممات , لم يأخذ أهميته لدى الكثير من الدول قديما , ولكن الحروب ومنعكساتها السيئة على المجتمع ساهمت بانتشاره عالميا وتطوره عبر الزمن ..فمع تزايد الحروب والموت وانتشار الجريمة كان لابد من زيادة الاهتمام بالأسباب المؤدية للوفاة , إضافة الى كشف الحقائق والأسرار في حالات الجرائم ..
وفي سورية ازدادت الحاجة اليه خلال سنوات الحرب الطويلة التي نعيشها فارتفاع نسبة الوفاة والمفقودين ضاعف من عمل كادر الطب الشرعي رغم الإمكانيات المحدودة ..
وللحديث عن أهمية هذا الاختصاص ودور الأطباء الشرعيين الكبير خلال فترة الحرب والصعوبات التي تواجه عملهم التقينا مع الدكتور بسام المحمد رئيس مركز الطب الشرعي في حمص وبعض الأطباء الشرعيين العاملين في المركز …
حماية المجتمع
عرف الدكتور المحمد الطب الشرعي بأنه اختصاص يهتم باستخدام المعارف والعلوم الطبية لخدمة قضايا قضائية , كما يهتم بحماية المجتمع , منوها بأنه اختصاص قديم , انطلق في سورية بعد عام 1996 , حيث تم افتتاح اختصاص طب شرعي في وزارة الصحة وفي وزارة التعليم , وبدء بتخريج أطباء يحملون اختصاص طب شرعي حيث كان هذا الاختصاص يعتمد على أساتذة الجامعات فقط , و يقتصر عملهم فقط على تدريب طلاب الطب وعددهم كان بعدد الجامعات ..
وأضاف : وصل عدد الأطباء الشرعيين في سورية لغاية 2011 إلى 156 طبيبا شرعيا , وكانت سورية بحاجة 200 طبيب , وحاليا عدد الأطباء الشرعيين ثلث الرقم المذكور ما قبل الحرب والسبب استشهاد بعضا منهم وهجرة البعض الآخر ..
الكشف على الأحياء والأموات
وأشار إلى أن الطب الشرعي وفقا للقانون السوري يقوم بمعاينة الأحياء والأموات في الحالات التالية : بالنسبة للأموات يجب أن يقوم الطبيب بالكشف على كل الوفيات الناجمة عن أسباب غير طبيعية كحوادث السير والقتل والطعن والإيذاء بشكل عام , إضافة إلى الوفيات المنافية والمشبوهة لنفي أن تكون غير طبيعية , وبالنسبة للأحياء يقوم الطبيب الشرعي بفحص كل الأشخاص الذين يتعرضون للتعذيب أو إصابات العمل أو حوادث السير أو الحوادث العرضية كالسقوط مثلا ..
كما أن الطب الشرعي يقوم بفحص الحالات الناجمة عن الاعتداءات الجنسية بالإضافة إلى حالات اضطهاد الأطفال أو ما يعرف «بتناذر الطفل المضطهد» والتي تم مشاهدتها بنسبة لا بأس بها في الفترة الأخيرة في مجتمعنا ..
ما قبل الحرب وخلالها
وتابع قائلا : اختلف عملنا عنه ما بعد الحرب في العديد من النواحي منها اختلاف طبيعة الحالات التي تراجع المركز ومنها ما يتعلق بالنقص الشديد بعدد الأطباء الشرعيين , فقبل الحرب كانت نسبة الجريمة متدنية في بلدنا مقارنة بكل دول العالم , وفق دراسات صادرة عن مركز الطب الشرعي بحمص , وكانت نسبة الكشف عن حالات الوفيات لا تتجاوز 10% من نسبة الحالات المعروضة على المركز ..
أما بعد الحرب انعكست الصورة فأصبحت نسبة التعامل مع الجثث هي الغالبة بشكل مطلق بنسبة تصل 90% وتراجعت نسبة الكشوف على الأحياء بسبب ميل الناس إلى البقاء في المنازل وقلة الحركة , بالتالي تراجعت أعداد حوادث السير والمشاجرات بالمقابل ارتفعت نسبة الكشوف على الوفيات بسبب الأعمال الإرهابية المباشرة وغير المباشرة كسقوط قذائف على الأحياء ..
«الاستعراف»
وأوضح أن اهتمام الطب الشرعي في فترة الحرب تركز على التعامل مع ملف الجثث مجهولة الهوية وهو ما يعرف بالإستعراف , حيث كانت ترد المركز أعداد كبيرة جدا من الجثث مجهولة الهوية , وهنا كنا نقوم بالكشف عليها «الحديث مازال لرئيس المركز» بعد إعطائها أرقاما ورموزا خاصة وجمع معلومات تتعلق بالجنس والعمل والعلامات الفارقة والمقتنيات الشخصية , إضافة إلى إجراء عملية (استعراف على الأسنان ) وأخذ عينات من تحديد البصمة الوراثية بحيث تكون هذه المعلومات كافية قدر الإمكان لتحديد هوية الجثة عند توافر بيانات أو معلومات تتعلق بشخص مفقود , كون جودة الاستعراف تتعلق بدقة المعلومات المجمعة والجثث المجهولة من جهة ومن جهة أخرى دقة المعلومات المأخوذة من ذوي المفقود , وبالتالي إجراء تقاطع بين هذه المعلومات للوصول إلى نتيجة جيدة .
ونوه إلى أن هذه المعلومات قد تكون أفضل من اللجوء إلى تحديد البصمة الوراثية لعدة أسباب منها عدم وجود قاعدة بيانات متعلقة بالبصمة الوراثية لكل شخص , كما هو الحال ببصمة الإبهام , كما أنه في بعض الحالات التي تكون فيها الجثة متفحمة أو متعفنة لا يمكن استخلاص البصمة الوراثية , إضافة إلى الصعوبات المتعلقة بالحصار الإقتصادي الذي جعل المواد الخاصة بتحليل البصمة الوراثية غير متوفرة ..
رموز وأرقام
وأضاف : بعد القيام بالكشف على الجثث مجهولة الهوية وإعطائها رموزا وأخذ عينات والانتهاء من عملية التوثيق كان لا بد من القيام بعملية دفن لهذه الجثث بطريقة تحفظ كرامة المتوفي وتؤمن إعادة نبش القبر عند التعرف عليها ..
حيث استلم مركز الطب الشرعي هذه المهمة بتكليف من محافظة حمص , حيث قمنا بتقديم خطة عمل لهذا الموضوع وتأمين الاحتياجات اللازمة من قبل مكتب الجاهزية بالمحافظة إضافة إلى مديرية صحة حمص حيث كنا نقوم بعملية تكفين الجثث ووضعها في محافظ بلاستيكية تحمل نفس رموز وأرقام الجثث , وكنا نقوم بالتواصل مع مكتب دفن الموتى بحمص ومؤسسة الدفاع المدني بحمص , وذلك من أجل القيام بالشعائر الدينية التي كانت تتم على الطريقة الإسلامية وفي حال تبين أن الشخص من الطائفة المسيحية كنا نتواصل مع إحدى الكنائس والتي كانت ترسل من يهتم بذلك , ثم يقوم عناصر الدفاع المدني بنقل هذه الجثث إلى المقابر التي خصصت لذلك عن طريق محافظة حمص ..
وأضاف : كانت تحفظ المعلومات المتعلقة بكل جثة إضافة لمكان دفنها في مركز الطب الشرعي بحمص وفي فرع الأمن الجنائي بحمص.
والى هذه اللحظة يستطيع أي شخص لديه مفقود الذهاب لفرع الأمن الجنائي للاطلاع على ملف الجثث المجهولة وفي حال التعرف على جثة ما يمكنه بسهولة اصدار الوثائق المتعلقة بالشخص , والتعرف على مكان دفن تلك الرفات .. منوها إلى وجود داتا خاصة بالجثث مجهولة الهوية ..
طبيب أسنان شرعي
وأشار إلى أن عملية الاستعراف الناجحة تحتاج إلى طبيب أسنان شرعي مؤكدا أن هذا الاختصاص متوفر بأعداد قليلة جدا , وفي حمص لا يوجد أي اختصاصي حتى الآن, علما أنه تم التوجيه بفتح هذا الاختصاص بحمص وحاليا لدينا مقيمين اثنين اختصاص طب أسنان شرعي سنة أولى وثانية , وهذا الاختصاص يحتاج إلى أربع سنوات دراسة بعد التخرج من كلية طب الأسنان ..
موضحا أن هذا الاختصاص يساعد في عملية التعرف على الجثث مجهولة الهوية من خلال دراسة تشكل وتطور الأسنان حسب المراحل العمرية إضافة إلى دراسة العلامات المميزة في الجمجمة بشكل عام كما يمكن لصاحب الاختصاص المساعدة في تقدير العمر و الجنس إضافة إلى دراسة العضات البشرية مما يلعب دورا هاما في علم الجريمة من الأحياء ..
دعم متواضع
الطب الشرعي من الاختصاصات التي كانت مهملة في بلدنا من حيث الدعم والاهتمام بالقيمة الحقيقية للطبيب الشرعي , وخاصة فيما يتعلق بالتبعية «وحاليا يتبع لوزارة الصحة» , ولكن زاد الاهتمام بهذا الاختصاص خلال فترة الحرب على الصعيدين المحلي والدولي بسبب ملف الجثث مجهولة الهوية والمفقودين , حيث قدم له الدعم ضمن الإمكانيات المتاحة من وزارتي الصحة والعدل ومن خلال منظمة الصليب الأحمر في سورية , وذلك عبر إقامة ورشات عمل تدريبية حول كيفية التعامل مع الجثث مجهولة الهوية , سواء داخل سورية أو بالإيفاد لفترات قصيرة لخارج سورية ..
يحدد النصوص القانونية
وفيما يتعلق بالأحياء قال : يقوم الطبيب الشرعي بفحص الأحياء الذين تعرضوا لحوادث سير أو أذية أو إصابة أو اضطهاد لتحديد شكل وطبيعة ومكان الإصابة وزمانها والعقابيل المتعلقة بها, وبالتالي فيما إذا كانت غيرية أو جنائية أو ذاتية وينتهي التقرير بقرار يتضمن مدة الشفاء ومدة التعطيل عن العمل ونسبة العجز إن وجدت , وبناء على مدة التعطيل ونسبة العجز يتوقف القرار الذي يجب أن يتخذ من قبل القضاء , وبالتالي تقرير الطبيب الشرعي يحدد النصوص القانونية التي يجب أن تطبق وبالتالي توقيف الشخص المتهم أو إطلاق سراحه أو غير ذلك ..
منوها بأن أخلاقيات ممارسة المهنة تلعب دورا كبيرا , إضافة إلى المبادئ العلمية التي يجب على الطبيب الشرعي القيام بها , لأن القرار القضائي وإعطاء الحقوق لأصحابها يتوقف على قرار الطبيب الشرعي الذي يجب أن يكون «علميا مهنيا حياديا عادلا » ..
مركز متطور
مركز الطب الشرعي بحمص يقدم خدمات الطب الشرعي على مدار 24 ساعة وموجود بمبنى مستقل بالقرب من دوار 8 آذار , حاليا المركز بتجهيزاته وعناصره والعاملين به أفضل من واقع المركز قبل الحرب .
يوجد لدينا سبع أطباء شرعيين وعشرين موظفا ما بين «ممرض وفني احصاء» ونتمنى مستقبلا وجود مركز متطور بحمص خاص بالوفيات وتشريح الجثث لأننا نعتمد حاليا على مركز الطبابة الشرعية بالمشفى العسكري فيما يتعلق بالوفيات والتشريح وحفظ الجثث ..
تتعرض للاندثار
لإلقاء الضوء على الصعوبات التي يعاني منها الأطباء الشرعيين تحدثنا مع الدكتور محمد شاهين والذي أكد بدوره أن الطبيب الشرعي يتقاضى راتب فئة أولى فقط ناهيك عن عدم وجود عيادة خاصة لأي طبيب منهم مما أثر بشكل سلبي كبير على مستقبل الطب الشرعي في سورية لأن أغلب الأطباء الشرعيين على أبواب التقاعد ولا يوجد أي طبيب مقيم حالياً على مستوى سورية وبالتالي سيفتقد الطب الشرعي للدم الجديد الذي يرفد هذا الاختصاص أي بما معناه بعد خمس أو عشر سنوات لن يكون هناك أي طبيب شرعي عامل في هذه المهنة ..
لا يوجد حصانة
وأكد أنه كان هناك وعود بإقرار مكافأة مادية شهرية لهم أسوةً بأخصائي التخدير والشعاعيين وأخصائي العلاج الفيزيائي لكنها لم تقر ، ولعل أهم عقبة تعترض عمل الأطباء الشرعيين في سورية بشكل عام هو عدم وجود حصانة لهم بالرغم من الوعود المقدمة من قبل الهيئة العامة للطب الشرعي و وزارة العدل لتحقيق هذه الحصانة لهم .
سيارة لنقل الجثث
وأشار أيضاً إلى عدم وجود سيارة خاصة لنقل الأطباء من المركز عند وقوع حادثة معينة لذلك ينتقلون على حسابهم الشخصي مما يشكل عبئا ماديا عليهم بالإضافة لعدم وجود سيارة خدمة لنقل الجثث لذلك يتم الاعتماد على سيارات الهلال الأحمر والدفاع المدني إن توفر لديهم سيارات ..
وشرح أنه بعد حرب دامت لأكثر من ثماني سنوات على بلدنا وبعد معاناة كبيرة من وجود عدد هائل من المفقودين وجثث مجهولة الهوية لا تتوفر الإمكانية المادية الكبيرة لامتلاك بنك معلومات خاص « شعاعي أوDNA» للكشف عن هوية الجثث المجهولة .
وكغيرهم من الأطباء أوضح معاناتهم من عدم وجود وقت راحة خاص بهم لقلة عددهم لأنه بأي لحظة يطلب الطبيب للكشف عن جريمة أو حادثة ما .
وأشار إلى أنه تمت معاينة أكثر من 2964 إصابة للأحياء و467 حالة وفاة خلال العام الحالي , بينما تمت معاينة 2679 اصابة للأحياء و482 حالة وفاة خلال العام الماضي ..
أسنان شرعي
ومن اختصاصات الطب الشرعي المهمة طب الأسنان الشرعي , وأكد الدكتور زين الدين فايز العتر أنه مهم جداً ومختص « بالاستعراف» على هوية الجثث المجهولة في القضايا الجنائية عن طريق الأسنان والعضات, للكشف عن الجرائم وغيرها من الحوادث وفي حالات الكوارث الطبيعية حيث يتم الاعتماد في بعض الحالات على صور الأشعة والبانوراما الخاصة بالجثث المجهولة والتي أخذت في وقت سابق في مراكز الأشعة أو عند أطباء الأسنان الذين راجعوهم سابقا…
بقي أن نقول
الطب الشرعي من الاختصاصات التي أثبتت أهميتها خاصة خلال فترة الحرب رغم الإمكانيات المتواضعة التي يعمل بها الكادر الطبي , لذلك من الواجب على الجهات المعنية تقديم الدعم الكافي لاستمرار هذه المهنة لما فيها من فائدة للأحياء والمتوفين ..
بشرى عنقة – شذا الغانم