«أفقا » شريان الحياة لواحة تدمر .. يهدده الجفاف ..النبع التاريخي بحاجة للجان متخصصة لإزالة الردميات و حمايته من الانهيار
بدأت تدمر كقرية صغيرة بالقرب من نبع أفقا على الضفة الجنوبية لوادي القبور و تبعد (لؤلؤة الصحراء) 160 كم عن مركز مدينة حمص و لايخفى على أحد الأهمية التاريخية الكبرى التي تتبوأها تدمر على مستوى العالم و التي عرفت في اللغات الإغريقية و اللاتينية باسم بالميرا المشتق من معنى النخيل , وذاع صيت تدمر بوصفها واحة خصبة في وسط الصحراء، بفضل ازدهار تجارة التوابل والعطورات والحرير والعاج من الشرق، والتماثيل والزجاجيات من فينيقيا , وظهر اسمها للمرة الأولى على مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد عندما كانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط وإحدى محطات طريق الحرير.
و يعتبر كل ما في تدمر ذو قيمة أثرية كبرى, فكيف عندما يكون الحديث عن النبع الذي كان يوماً السبب الرئيسي في نشوئها ؟؟
منذ الألف الثاني ق. م
و الحديث اليوم عن المسبب الرئيسي لنشأة هذه الواحة و تطورها و هو نبع أفقا التاريخي و الذي كان منذ زمن بعيد يروي واحة تدمر على اتساعها , و في التفاصيل ذكر المهندس إسماعيل إسماعيل مدير الموارد المائية بحمص بأن كهف أفقا الواقع في الطرف الغربي لمدينة تدمر يعتبر كهفاً أثرياً يتكون من عدة تفرعات بعضها طبيعي و بعضها صنعي و يبلغ طولها الإجمالي حوالي 800 متر,و يحوي نبعاً للمياه الكبريتية الساخنة..
و أشار إسماعيل لوجود النبع منذ القدم و ارتبط وجود مدينة تدمر و ازدهارها منذ الألف الثاني قبل الميلاد بوجوده حيث كان يؤمن مياه الري لواحة تدمر القديمة ,وجرى في العقود السابقة توسيع بعض أجزاء الكهف و إعدادها للاستثمار السياحي عن طريق إنشاء بعض الحمامات و الأدراج و المداخل حيث خصص أحد الفنادق قسماً من الكهف لنزلائه لإفادتهم من الحمام المعدني الطبيعي مما ساهم بنمو العائدات السياحية آنذاك
موجات جفاف
وتحدث إسماعيل عن بعض التقارير التي ذكرت أن تصريف النبع بلغ في الماضي 150 ل/ثا في حين ذكرت تقارير أخرى أن التصريف بلغ 60 ل/ثا إلا أن غزارة النبع بدأت بالتراجع تدريجياً إلى أن وصلت حد الجفاف في صيف عام 1993 وتزامن تراجع الغزارة مع موجات الجفاف المتلاحقة التي أصابت المنطقة , ومع تقدم تكنولوجيا الحفر و استخراج المياه من الآبار و التوسع في الزراعات المروية في بساتين واحة تدمر كلها تطورات و أساليب أدت إلى تراجع غزارة النبع و إلحاق أضرار جسيمة بالبساتين و هددت واحة تدمر بالزوال و التي تبلغ مساحتها حوالي 400 هكتار مما دفع مديرية الري العامة لحوض البادية سابقاً إلى حفر البئر L9 خلف سد تدمر و وضعه بالاستثمار عام 1993 بغزارة مرتفعة تصل إلى 100 ل/ثا في موقع قريب من النبع للتعويض عن تراجع غزارته و إنقاذ الواحة التاريخية , كما تم لاحقاً حفر البئر L9A بغزارة تبلغ 20 ل/ثا
عمليات إنقاذ للواحة
و أشار إسماعيل إلى أن الشركة العامة للدراسات المائية أنجزت دراسة تفصيلية لحوض سبخة الموح بمفهومها الشامل عام 1998 و تضمنت الدراسة معلومات تفصيلية حول نبع أفقا وحول الاستثمارات المائية من الآبار الموجودة في واحة تدمر و خلصت الدراسة إلى مجموعة من التوصيات تتعلق بضرورة مراقبة مناسيب المياه الجوفية وضرورة ترشيد استهلاك المياه لأغراض الري في واحة تدمر , كما تم إنجاز دراسة جر المياه من منطقة العباسية الواقعة جنوب تدمر بحوالي 35 كم إلى الواحة من أجل إنقاذها من الجفاف ,وتم تنفيذ بعض أجزاء المشروع المتضمنة ربط آبار العباسية ذاتية الدفع بخط من الأنابيب بالإضافة لتنفيذ مجموعة من المباني والخزانات و المنشآت الخدمية اللازمة لإيصال المياه إلى الواحة و الأجزاء المتبقية من المشروع و المتضمنة تنفيذ محطة ضخ وشبكة ري حديثة مساحة 1060 هكتاراً مدرجة في خطط عمل الأعوام القادمة ..
كما استعانت مديرية الري العامة لحوض البادية عام 2004 بناد لبناني أوفد بعثة من المتخصصين من أجل دراسة الكهف و تقديم مقترحات للاستثمار السياحي و إعادة تأهيل حمامات المياه المعدنية , و تضمن التقرير معلومات جيولوجية و وصفية حول النبع.
جولات ميدانية
و تحدث إسماعيل عن الوضع الراهن للنبع بناء على ملاحظات الجولات الميدانية لكوادر المديرية حيث لوحظ وجود مياه ساخنة في أرضية النبع و وجود أكوام من الردميات في مخرج الكهف من جهة الحمامات وبينت نتائج تحليل العينة المأخوذة منها إلى نوعية المياه المعدنية الساخنة المطابقة لمواصفات مياه النبع قبل الجفاف حيث بلغت الناقلية 2470 ميكرو سيمنس /سم و بلغت نسبة الكبريتات 952ملغ/ل و حرارة المياه حوالي 35 درجة مع وجود رائحة لغازالكبريت .
كما لوحظ أن المياه متجمعة في أرضية الكهف بالإضافة لوجود بعض الآثار التي تشير إلى انخفاض منسوبها ,و لم يلحظ وجود جريان كما تبين تعرض مدخل و مخرج الكهف لأضرار بالغة على يد العصابات الإرهابية المسلحة في مدينة تدمر مما خلف أكواماً من الركام و أدى إلى انسداد مجاري المياه.
كما لاحظنا في جولة بتاريخ 6-2-2019 انخفاض عامود المياه ضمن حوض النبع بحدود 20 سم و المياه راكدة لايوجد فيها حركة وكانت حرارة المياه في مركز النبع بحدود 27,9 درجة مئوية بينما على الأطراف بلغت حرارة المياه بحدود 23 درجة مئوية و الناقلية الكهربائية 2,96 ميلي موز و هذا يدل على عدم وجود مياه متدفقة من النبع تستطيع أن تجعل الحوض المائي للنبع ذي حرارة متماثلة بين المركز و الأطراف …
متابعة و بالأرقام
و أضاف إسماعيل: يوجد بئر مراقبة قريب من فوهة الكهف بحدود 10 متر مسجل لدى مديريتنا باسم بئر الميريديان تم قياس منسوب المياه الستاتيكي و كان بحدود 12,5 متر عن سطح الأرض
ومن خلال المراقبات الدورية القديمة للبئرL9 و بئر الميريديان و نبع أفقا الكبريتي يتضح الآتي :
بلغت غزاة النبع الكبريتي في بداية عام 1990 حوالي 130متر مكعب /سا و بعد ثلاثة أعوام و نصف انخفضت إلى مايقارب 30 متر مكعب /سا ,ليتوقف جريان النبع بتاريخ 1-9-1993 و كان عبارة عن تجمع مائي يشبه التجمع الحالي و حرارة المياه 27 درجة مئوية و الناقلية الكهربائية 1,6 ميلي موز و بتاريخ 1-10-1993 جف النبع تماماً ..
في حين أظهرت المراقبة الدورية لبئر الميرديان أن منسوب المياه الستاتيكي لغاية 1994 هو 14,69 مترا عن سطح الأرض , أما البئر L9 فهو أفضل حالاً حيث كان المنسوب الستاتيكي لبداية عام 1990 يقارب 16,1 متر عن سطح الأرض و نبع أفقا له غزارة ,أما بعد ثلاثة أعوام كان منسوب المياه في البئر المذكور 16,9 متر عن سطح الأرض و النبع عبارة عن تجمع مائي ولايوجد جريان خارج بحيرة النبع.. و مع بداية الشهر العاشر من عام 1993 بلغ المنسوب الستاتيكي في البئر 17,05 و النبع جاف تماماً..
بحاجة لمتخصصين
و تحدث إسماعيل عن بعض الإجراءات المتخذة بعد زيارة لجنة وزارية برئاسة السيد وزير الصحة إلى مدينة تدمر و إلى موقع النبع بتاريخ 18-3-2019 حيث قامت كوادر المديرية بمحاولة لتعزيل الردميات الموجودة داخل مخرج الكهف في نهاية النفق باستخدام الأيدي العاملة و الآليات المناسبة من أجل توفير إمكانية لجريان المياه باتجاه الواحة و تبين أن التعزيل يحتاج إلى ورش مختصة مؤهلة للعمل في المواقع الأثرية بما يضمن سلامة الموقع والعاملين نظراً إلى أن هذه الردميات ناتجة عن انهيارات في جدران و سقف النفق نتيجة تعرضه لأضرار بالغة جراء اعتداء العصابات المسلحة ,كما أن هذا الإجراء يحتاج إلى دراسة و تقييم لتحديد ضرورة تدعيم النفق أو ترميمه أو أية إجراءات أخرى تمنع حصول انهيارات جديدة ..
و بين إسماعيل إلى قيام المديرية بالتنسيق مع مديرية السياحة ودائرة الآثار و المتاحف التي بينت أن ما يخص الكهف هو من اختصاصها
و أوضح أن إمكانيات الموارد المائية و مهامها تقتصر على مراقبة النبع و تقديم المساعدة بالآليات خارج الموقع الأثري, وأضاف :من خلال التنسيق المستمر مع المحافظة تم توجيه دائرة الآثار ومديرية السياحة لاتخاذ الإجراءات الفورية لجهة إنجاز أعمال تأهيل النبع و الاستمرار بمراقبة منسوبه ,مع العلم أننا نتابع أعمال المراقبة وقياس منسوب المياه داخل الكهف و خارجه …
عودة المياه للنبع …
و أشار إسماعيل إلى أن توقف استثمار المياه خلال السنوات القلية السابقة و غزارة الأمطار في منطقة تدمر خلال الموسم الماضي و التي تجاوزت المعدل السنوي بشكل كبير أدى إلى ارتفاع مناسيب المياه الجوفية و بالتالي عودة المياه إلى نبع أفقا, و لكن مازال مدخل الكهف ومخرجه بحاجة إلى تعزيل و إجراء كشف تفصيلي لتحديد الأعمال اللازمة للترميم بإشراف مختصين في مجال الآثار ..
و أوضح إسماعيل أن كوادر المديرية على استعداد لتقديم الدعم الفني و التنسيق المباشر مع الجهات المعنية (مديرية السياحة و مديرية الآثار في تدمر) من أجل إنجاز أعمال إعادة التأهيل و الاستمرار في مراقبة النبع.
مع العلم أن المراقبة المائية الدورية المستمرة خلال الأشهر السابقة بينت تغير منسوب المياه داخل الكهف و في المخرج و بشكل محدود حوالي 10 سم صعوداً و هبوطاً و لم يصل المنسوب لتاريخه إلى حد التدفق و الجريان .
هنادي سلامة