أمسكت جهاز الهاتف المحمول بعد انتهاء المكالمة بكلتي يديها ووضعته على صدرها من جهة اليسار و هي تقول « الحمد لله .. الحمد لله «
أي فرح تشعر به !! يرقص قلبها ابتهاجاً .. ما أقل اللحظات التي تشعر فيها هذه الأيام بانشراح صدرها …
آه يا خالد كم اشتقت إليك أيها الأغلى و الأبهى .. يا سندي في هذه الدنيا ..!!
منذ أسابيع لم يتحدث معها وحدها في هذا البيت الصغير في حي « العمارة « استأجرته بعدما خرجت بملابسها من بيتها الواسع .. دار عربية .. فيها أشجار و عريشة عنب دوماني كبيرة تغطي جزءاً من أرض الدار .. لم يبق لها سو ى خالد شقيقها بعدما مات أبواها .. هو الدنيا كلها عند سعاد و هي كذلك بالنسبة إليه .
لا تزال كلماته في أذنيها برداً و سلاماً
« أعتذر منك يا سعاد لم أتمكن من التحدث إليك .. المعركة حامية الوطيس كل يوم نحقق انتصاراً ،الأمان عائد إلى الغوطة حتماً . استعدي للعودة إلى دوما … إلى بيتنا !!»
الغوطة .. دوما .. حرستا .. جوبر .. زملكا .. أية ذئاب فتكت بالعنب الدوماني اللذيذ ..!! أي بشر هؤلاء الذين أحرقوا البيوت و دمروا المدارس .. قتلوا من قتلوا .. هجروا من هجروا ..!! ذلك اليوم الأسود.. لا يمر يوم إلا و تستعيد تفاصيله خرجت تهيم على وجهها مع كثير من الرجال و النساء و الشيوخ و الأطفال ،استأجرت هذه الغرفة هنا في العمارة لكن القذائف تصل أحيانا إلى هنا .. قبل أيام سقطت قذيفة غادرة على منزل قريب فقتلت و جرحت من فيه ..!!
الغوطة التي اعتادت أن ترسل أشواقها إلى المدينة كل صباح مع ثمار العنب و المشمش و الخوخ و الزيتون .. باتت ترسل إليها قذائف الموت و الدمار ..!! أي جنون .. أية خيانة
قالت لها العرافة قبل سنوات : « سيأتي وقت تنكسف فيه الشمس و يصيب القمر الخسوف .. يحل الجفاف في هذه الديرة بعدما تجف الينابيع و الأنهار و الآبار .. و ما تبقى من ماء يصير بلون الدم ،تظهر أشباح تشبه البشر و لكنها ليست بشراً
تطلق النار على عناقيد العنب و عصافير البساتين و على حبات المشمش .. و على رؤوس الناس و تلوث الماء بالقاذورات ..تسبي النساء حتى يصير لكل واحد من هؤلاء عدة نساء و يغيرهن باستمرار ..»
تشعر بالرعب تصرخ بوجه العرافة تطردها و هي تقول « خذي ما تشائين و اذهبي ».
غابت العرافة سنوات ثم ظهرت فجأة التقتها وجهاً لوجه
:» أنت .. الـ .. ؟!!»
:نعم ..و أنت البنت الدومانية ..؟!!»
« ما الذي جاء بك إلى هنا ؟!
« ما جاء بك أنت إلى هنا ..!»
دعتها إلى غرفتها تناولتا القهوة بسرعة قلبت العرافة الفنجان تأملت ما بداخله .. و قالت : سوف تعود الشمس كما كانت و كذلك القمر سوف يعود للسهر مع العاشقين و يراقص النجوم … و سوف تعود الغوطة ترتدي أثوابها و فصولها الجميلة ..يبتهج الناس و تكثر الأفراح و الليالي الملاح تضحك العرافة بخبث و تقول :
و لك يا سعاد نصيب من الفرح و السرور .. انظري في الفنجان هذه صورته : شاب طويل يشبه أخاك .. و قد يكون رفيقه .. عيناه عسليتان .. شعره أسود كثيف ..يفكر بك كثيراً . لكنه لا يستطيع رؤيتك .. لقد أحبك من النظرة الأولى .. اسمه ربما يبدأ بحرف الواو .. هاتي ..!!» و مدت العرافة يدها فأنقدتها سعاد عدة قطع من فئة الخمس والعشرين ليرة ..!!»
غادرت العرافة البيت . قلب سعاد يدق بقوة .يكاد يخرج من صدرها ..أي فرح هذا ؟!!
هل ماتقوله العرافة صحيح ؟!! يبدو ذلك
كان ينظر اليها بحياء وإعجاب . رفيق خالد ..واسمه « وائل» . وقد أسرلها خالد أن وائل سأله عنها ..وابدى رغبته في التعرف عليها أكثر ..ولمح أنه سوف يطلب يدها بعد انتهاء هذه الحرب المجنونة ..وبعد أن يطهروا سورية من رجس الإرهاب ..!!
« سوف أحضر ..غداً ..في إجازة قصيرة جداً ..»
هذا يعني أنه سيحضر لعدة ساعات ليس أكثر .
« حضري الغداء قد يأتي معي أحد من رفاقي ..!!»
وهذا معناه أن تعد « الكبسة » هذه الأكلة المفضلة لديه ..
« كل يوم نحقق انتصاراً جديداً ..»
هذا أهم ماقاله ..الحمد لله ..سوف نعود الى بيتنا ..!!
آه يادوما ..آه يابيتنا ..ياعريشة العنب الدوماني ..من يجلس تحتك ..من يقطف عناقيدك المتدلية بجمال باذخ .ومن يتذوقها ؟!!»
الموعد يقترب ..يدق قلب سعاد ..تسمع خطوات خارج الغرفة ..ثمة دقات على الباب ..
« افتحي ياآنسة سعاد ..انا وائل رفيق خالد ..!!»
تفتح الباب تمسح عينيها ..تقول بصعوبة :
«نعم..أين خالد ؟!!»
« خالد ..سيصل بعد قليل ..قال وائل ..الشهيد البطل خالد سيصل في الموعد ..على الغداء ..!!»
عيسى اسماعيل
المزيد...