في كل منطقة .. أو مدينة .. أو قرية .. أو أي تجمع بشري يوجد طبقة من الناس هم طبقة ( العتالة ) أو الحمالة وهؤلاء الناس ليست مهمتهم التحميل أو ( التعتيل ) بالمعنى الحرفي للكلمة .. أي لايستخدمون أجسادهم .. وإنما يستعملون أنفسهم بمعنى آخر .. هؤلاء الناس يحملون ويعتلون هموم البشر الآخرين .. وليس بالضرورة أن يكونوا من طبقة المثقفين .. مع أن معظمهم من طبقات المتعلمين أو المثقفين ..
وهؤلاء يشعرون بآلام الآخرين .. ويرون الأخطاء أكثر من غيرهم .. ولذا تراهم دائماً يحملون السلم بالعرض .. كما يقال .. وهم ينظرون بشكل دائم .. ويحللون مظاهر المجتمع وخاصة المظاهر الخاطئة ..
ويطرحون حلولاً منطقية لمشاكل وأخطاء المجتمع .. ويسمون الأمور بمسمياتها الواقعية ويشيرون بالبنان للأشخاص الفاسدين .. ويفندون سرقات اللصوص واختلاساتهم بالعين المجردة .. بمعنى آخر .. يقولون إن فلاناً هو لص .. أو .. حرامي .. أو فاسد ..
ولكن ما هي النتيجة من وراء كل هذا ؟! هل يأتي حديثهم بنتيجة ؟! أو هل يستمع أحد لهم .. هم يقولون يا جماعة إن فلاناً من الناس هو إنسان فاسد .. وكل أعماله تدل على فساده .. وجميع الناس يعرفون ذلك .. وهنا ينقسم الناس بين مؤيد لهذا الكلام .. ويائس يعلم علم اليقين أن الكلام لا يقدم .. ولا يؤخر .. فافضل شيء هو الصمت إذاً فالشريحة السابقة يمكن أن نطلق عليها عين المجتمع الدقيقة … العين التي ترى الأخطاء والفساد وتشير إليه حقيقة .. وتطرح الحلول لمكافحة هذه الآفة المستشرية في الحقيقة تقابل الفئة السابقة فئة على أرض الواقع هم فئة الكتاب والصحفيين ولكن الاختلاف بين الفئتين ربما لا يكون واضحاً .. وأنا سأوضح الفرق بينهما ..
فالفئة الأولى تطرح المشاكل وتشير لها بالكلام فقط« أي بالحكي» .. بينما الفئة الثانية تكتب المشاكل وهموم الناس كتابة .. والفئة الأولى تطرح المشكلة بمسمياتها .. بينما طبقة الكتاب لا تجرؤ أن تسمي الأمور تسمية .. فتكتب بطريقة عمومية والفئة الأولى تطرح حلولاً للمشاكل التي تراها .. بينما الفئة الثانية فغالباً لا تستطيع أن تطرح الحلول الجذرية .. فلا يمكن للصحفيين أن يشيروا صراحة للفاسد أو اللص ولا يستطيعون أن يقولوا إن هذا الفاسد يجب أن يعاقب بالسجن المؤبد .. مثلاً وأخيراً وبسبب خطوط قوس قزح لا تتمتع الفئة الثانية بجرأة الفئة الأولى لأن الفئة الأولى غير رسمية بينما الفئة الثانية هي فئة رسمية وسأعتبر نفسي أنتمي للفئتين معاً .. فأنا ممن يحملون السلم بالعرض .. وأمشي به عاتلاً هموم البشرية جمعاء .. ,وأريد أن أطرح عدة أسئلة .. على نفسي أولاً .. وعلى من يعنيهم الأمر ثانياً ..
لماذا لا يستطيع الكاتب أو الصحفي أن يطرح هموم ومشاكل مجتمعه صراحة وبكل تفاصلها التي يراها أمامه ؟! .
لماذا نمتنع عن تسمية الفاسدين والمختلسين تسمية صريحة .. أي أن يقال عن فلان من المسؤولين أو العامة أنه فاسد ويسبب خللاً في المجتمع وأنه أحد الرموز المسببة لتخلف المجتمع .. وأنه يشغل حيزاً موبوءاً بالفساد .. وأن هذا الشخص يكرس فكرة الفساد تكريساً .. ربما إن لم يحاسب على ذلك .. فقد يصبح الفساد والبيروقراطية من عادات المجتمع فيما بعد .. لأنه وحسب ابن خلدون فإن أي عادة رديئة قد تصبح عادة يتدوالها الناس إذا تم تكرارها .. ولم يوضع لها حد .. ولم يعاقب الفاعل على فعلته الخاطئة تلك ..
لماذا لا يستطيع الصحفي أن يطرح الحلول لمشاكل المجتمع بشكل واضح وصريح مع أن الصحافة تسمى السلطة الرابعة !!
فعلى سبيل المثال لا الحصر .. تقرأ في كل فترة عن حال إحدى القرى التي تفتقر للمياه .. وتفتقر للصرف الصحي .. وحالة مدارسها يرثى لها .. وكذلك رغيف الخبز الرديء .. والطرقات الوعرة المحفرة .. كما أنها بحاجة الى خدمات كثيرة ..و.. ..و..الخ .
ولكن لا يمكن أن نقرأ عن سبب هذه المظاهر .. فلا تسمى البلدية باسمها ولا يسمى رئيس البلدية باسمه .. ولا يطرح اسم صاحب الفرن المسؤول عن رداءة رغيف الخبز .. ولا يسمى مدير التربية كمسؤول عن وضع إحدى المدارس السيئ .. لماذا ؟ لماذا تبقى همومنا ومشاكل حياتنا عبارة عن شفرة ضبابية دون الجرأة على اضاءتها بشكل صريح وواضح ؟
أنا على ثقة أن أحد الفاسدين يقرأ الآن هذه المقالة وهو يضحك .. ويقهقه سخرية .. وربما ألحق بي شتيمة .. شأنه شأن غيره من الفاسدين .. الذين يضعون أيديهم وأقدامهم في ماء بارد ..!!
د. نصر مشعل