أعرف سلفاً، أنّكم «جميعاً» سوف.. لا يهمّ، ما دمتُ على قناعةٍ ممّا سأدلي به من «تخريفٍ أجوف»! يوماً اتّصل .. واثقا قال: «البسْ على عَجَل .. تعال على جناح السّرعة.. أنا بالمكتب لك عندي مفاجأة سارّة، لا تتأخّر»..
استحلفته عنْ ماهيّة المفاجأة.. قال بحسم: تعال و «بس»!
حلّلت هذه (الـ «بس» الحاسمة)، رُزْتها بِعقلي، لم أتوصّل لِنتيجة مقنعة، ترضي تلهّفي لمعرفة ما يريده منّي، فظلّ طموحي مبتورَ الجناح! انطلقتُ.. آلاف الصّور والأفكار تسبح برأسي، حتى اللّوحات الإرشاديّة، أسماء المحالّ والشوارع، إشارات المرور، كلّها تجسّدت لي بكلمة واحدة هي «بس»! هذه الكلمة على جبروتها تدقّ رأسي، وأنا بالطريق إليه .
بين بيتي بالشّارقة، ومكتبه بإمارة عجمان نحو»6» كيلومترات؛ والإمارتان بطبيعة الحال متصلتان عمرانيّاً، من دون حدود فاصلة!
على الهاتف، قبل أنْ يطبق السمّاعة، قال:
أتعرف مركز الشرطة بِحيّ «النعيميّة»؟ أجبتُ: أظنّ أنني مررت بجانبه يوماً، على كلٍّ «الذي في فمه لسانٌ ناطقٌ، لا يضيع»..
بشارعٍ رئيسيٍّ في «النعيميّة»، سألتُ شخصاً عابراً، عن المكان،
قال: امشِ إلى الأمام بشارعين، انعطف يساراً بحدود 200م، ترَ مركز الشرطة، هناك اسأل عن مكتب صاحبك!
صاحبي الّذي استدعاني على عَجَل، و»بَسْبَسَ» لي، لديه مكتب عقاري، لوحته العريضة تقول: «عقارات عجمان: بيع أراضٍ، إيجار بيوت، إيجار دكاكين، غرف مفروشة يومي، أسبوعي، شهري…»! هناك..عندما رآني بدأ يضحك، يقهقه بصوتٍ مُزمجِر، كأنَّ نكتةً «لدَغتْه» فانفجر بذلك الضحك! قلتُ بشيءٍ من امتعاضٍ:
– .. ما الدّاعي لكلّ ذلك؟ قال: أوّلاً، اجلس..فجلست..
كان ينظر إليّ ويضحك، كنت أبادله الضحكات بنظراتِ استغرابٍ ودهشةٍ، وببعضِ انزعاجٍ داخليّ- خارجيّ! إلى اليمين من جلستي، وقعت عيناي على شيءٍ «نشاز»، لم يكن في موقعه أبداً.. مكتبة خشبيّة فاخرة مملوءة كتباً، بأحجامٍ ومقاساتٍ مختلفةٍ، وألوانٍ متباينة، قد وُضِعَت هكذا اعتباطاً منْ دون أيّ ترتيبٍ يُذكَر.. علاها غبارٌ واضح القسمات! هو بحدسه النّابِه، وذاكرته المتوقّدة، يعرف وَلَعِي بالكتب، ووشيجتي بها ومعها، مذ تعرّفت إليه مطلع التسعينات…
وبعد أنْ كانت عيناه تجوسَان بحرَ لهفتي، وعينيّ اللائبتين لاستطلاع عناوين الكتب، أسماء المؤلفين، باغتني بقوله:
– اخترْ من الرّفوف ما تشاء.. خذ ما تريد.. هدية منّي إليك، أعرف ولعك بالكتب! قد فرزْتها من مكتبتي البيتية، حين انتقلت لمنزلي الجديد الفخم!
بردّةِ فعل قلت:
– أنت تمزح.. قال: أكلّمك بجدّ.. خذْ ما شئت «حَلالاً زَلالاً»، لتبقى مع الأيام عربون صداقتنا، وللذكرى!
حين قرأت الجدّ بِحنجرته، قمت من فوري فرحاً، متهيباً لأستعرض عناوين الكتب، أسماءَ مؤلّفيها، وأنا غير مصدّق ما سمعته أذناي! كنتُ كلما التقطت كتاباً مهمّاً، دفعتُ به إلى «االمستخدم» الهندي الواقف جانبي مثلَ جندي متأهّب، كان يدعوه صاحب المحل باسم «بابو» بين الحين والآخر لأمرٍ ما. كان هذا «البابو» يلتقط الكتاب منْ يدي، يمسح غبارَه، يضعه بكلّ تؤدّة، وتهيّبٍ، واحترام، فوق طاولة خشبيّة كبيرة. الكتب التي اخترتها كثيرة، منها:
«القاتل الخفي» أجاثا كريستي، «بنت السلطان» إحسان عبد القدوس، «الزوجة الخائنة» ميشال زيفاكو، «ابن بطوطة ورحلاته» الدكتور حسين مؤنس، «ناظم حكمت: السجن، المرأة، الحياة» حنّا مينة، «حياة قلم» عباس محمود العقاد، «صندوق الدنيا» إبراهيم عبد القادر المازني، «حول الثقافة والتعليم» نجيب محفوظ ، «حبّوبة» مجموعة قصص لمؤلفها الإماراتي، محمد المرّ، «وداعاً أيّها الملل» أنيس منصور، «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» عبد الرحمن الكواكبي، «خريف الغضب» محمد حسنين هيكل، «جريمة في الريفيرا» جورج سيمنون، «هتاف المعذبين» عبد الوهاب مطاوع، «مختارات قصصية» يوسف إدريس، كتاب»غانم عبيد غباش في الحياة والسياسة – مقالات» من 496 صفحة..، و»الرّحيل» ليلى عثمان «قصص»…
كان»بابو» يساعدني بِجمع هذا «الهمّ» الثقافي، وهو الذي لا يتقن سوى لغته الأصلية الهندية «الأوردو»، وقولة «حاضر»! أمرَه صاحب المكتب، أنْ يأتي لي بصندوق من الكرتون المقوّى، ليقوم بمساعدتي بِتوضيب هذه الكتب استعداداً للمغادرَة!
حمل»بابو» الشاب الصامت مثل قبر، صندوق الكتب، ليضعه بصندوق سيّارتي المتواضعة.
حقاً..كنت بأعلى قمّة من الفرح والتجدّد، ودّعت صاحبي، و»بابو».. انطلقت..
بصندوق سيّارتي الخلفي الآن أكثر من كاتب وكاتبة، بِسيّارتي عددٌ من عمالقة الفكر والأدب والسياسة.. يجتمعون بمكان ضيّق جدّاً، ليس بهذا «الصالون» كرسيّ واحد، أو طاولة واحدة، ليس هناك تغطية صحافية، ولا مايكروفون، ولا جمهور، ولا كاميرات تلفزيونية، لم يحضر أيّ مسؤول، ليس هناك أمسية ثقافية، منْ أيّ نوع، ولا أيّ ندوة، أو اجتماع، أو مؤتمر!
بين أصحاب الكتب، مَنْ ودّع الحياة ليلاقي وجهَ ربّه..الأحياء منهم مجتمعون، بين بعضهم خلاف بالرّأي، وتناقض بالأهواء، والنظريات، والرّؤى، مع كلّ هذا وذاك، اجتمعوا منْ دون إراداتهم بهذا «السّجن ــ الصّندوق المغلق»! جلسة وديّة، نقديّة، عتابيّة، تجريحيّة، سجاليّة، هجائيّة، مدحيّة، سَمِّها ما شئت! صندوق سيّارتي «صار عُكاظاً مُستحدثاً»، أو «مربداً آخر»..
حين خرجتُ قليلا من زحمة الأفكار، قالت نفسي لنفسي:
«أنا مستغربة مثلك.. كيف استطاعت سيّارتك نقل هؤلاء الأدباء والكتّاب الكبار دفعة واحدة، لا تقسيطاً، بكلّ ثقلهم، وأفكارهم، وآرائهم، وفلسفاتهم بالحياة، وما بعد الحياة.. كيف استطاعت عجلات سيّارتك الثّبات، وهي تحمل أناساً من وزنٍ ثقيل، وثقيل جداً!
قفزَ عقلي قدّام سيّارتي، حين استوقفتني إشارة حمراء.. يحدّثني بشيء من اندهاش:
«.. هل يتّسع بيتك الصغير لكلّ هؤلاء العمالقة، ومن الجنسين»!
غرفة يتيمة.. بهوٌ صغيرٌ جداً خلف باب الشقّة، مطبخ صغير، حَمّام أصغر منه..
بكلماته استفقت من غفوةٍ طاغية.. كنت شارد الذهن..وأنا أفكّر بجلستهم الحميميّة، أو غير الحميميّة في «صالون» سيّارتي الخلفي.. وأنا سائقُهم جميعاً! وصلتُ أمام البناية.. استأذنت شابا بنغالياً يعمل في بقالية قريبة، بأن يساعدني في حمل صندوق الكتب.. ففعل..
باليوم التالي، كنت بمكتب العقارات، حين سألتُ صاحبي بصراحة عنْ سبب تخلّيه عن هذه الكتب القيّمة، بسخرية مالِحة أجابني:
«هي قيّمة بِنظرك.. يا عمّي.. العصر عصر الإنترنت، والكمبيوتر، والأجهزة المحمولة، المتطوّرة.. ولّى زمن الكتاب.. وزمن الورق الأصفر، كُنْ عاقلاً..»!
بقهقهات عالية، وتهكّم بذيء، نبسَ:
«انقعْ هذه الكتب، اشربْ ماءَها»!
أردف:
حقاً.. دفعت مبلغاً كبيراً ثمناً لها.. الآن صارت منْ سَقَطِ المتاع! «والمرء يكون جاهلاً، إنْ لم يقتحم عصر المعلوماتيّة.. وعليه أنْ ينسى شيئاً اسمه «الكتاب»؛
أنت تعرف أنني جامعي، فضّلت بعد التقاعد، أنْ أفتح مكتباً عقارياً كما ترى!
شرعَ يصبّ على دماغي نظرياته بتأييده ومناصرته لتكنولوجيا العصر، وأرباح العقارات، ولغة «الهمبرغر»، وحَسَنات العولمة، وفوائد الكمبيوتر والإنترنت، للوصول إلى أيّةِ معلومة تريدها، وعلى جناح السّرعة..حين بدأت أشرح له وجهة نظري عن فوائد الكتاب، وقيمته الحقّة في حياة الأوّلين والمحدثين والآخرين، كان يستخدم كلماتي مطايا لاستهزاءٍ مرّ، شديد القُبح.. لم نصل إلى رأيٍ توافقيّ البتة، كنّا على طَرَفي نقيض تماماً! فما كان منّي بنهاية المطاف، إلّا أنْ قلت له بلهفةٍ واضحة:
«هل هناك دفعة أخرى من الكتب، على سبيل الذّكرى والإهداء»؟
بِشفقةٍ نظر بوجهي، ساخراً قهقه كعادته، لكنّه وعدني بتأمينها بالقريب العاجل!
وجيه حسن
المزيد...