أعتقد أن ماكتب عن حرب تشرين شعراً ونثراً يملأ مجلدات ضخمة تضيق بها المكتبات العربية ، ولكنني أزعم أن ما أبدعه الشاعر الراحل المقيم نزار قباني شعراً ونثراً في هذه الحرب كان الأبدع والأروع والأنبل ، وسأذكر من إبداعه الشعري قصيدته الرائعة – ترصيع بالذهب على سيف دمشقي – المنشورة في صحيفة الثورة الدمشقية على الصفحة الأخيرة في الذكرى السنوية الأولى لحرب تشرين أي في السادس من تشرين الأول عام أربعة وسبعين، وهي قصيدة من عيون الشعر العربي المعاصر بدأها متغزلاً بدمشق رامزاً إليها بميسون ، وميسون حاضرة في ذاكرتنا التاريخية .
أتراها تحبني ميسون أم توهمت والنساء ظنون
كم رسول أرسلته لأبيها ذبحته تحت النقاب العيون
ودمشق الحبيبة هواها أموي عروبي فكيف يستطيع العاشق أن يفصح عن ذلك :
يا ابنة العم والهوى أموي كيف أخفي الهوى ؟ وكيف أبين ؟!
وهذه الحبيبة زادها انتصار تشرين جمالاً وقدرة على العشق ، والسر في ذلك الانتصار ثم الانتصار :
جاء تشرين يا حبيبة عمري أحن الوقت للهوى تشرين
جاء تشرين إن وجهك أحلى بكثير . ماسره تشرين ؟!
كيف صارت سنابل القمح أعلى كيف صارت عيناك بيت السنونو؟
ودمشق الحبيبة المناضلة مهرها أغلى المهور ، دموع ودماء ، شهداء ملء سمع الدنيا وبصرها…
يا دمشق البسي دموعي سواراً وتمني فكل صعب يهون
وضعي طرحة العروس لأجلي إن مهر المناضلات ثمين
ويزداد انتصار تشرين عظمة لأنه جاء بعد سنوات عجاف وطعنة نجلاء أصابت وجداننا في نكسة حزيران ، فالانتصار بعد النكسة انتصار مضاعف أعاد إلينا ثقتنا بأنفسنا، والعافية لضمائرنا المطعونة :
هزم الروم بعد سبع عجاف وتعافى وجداننا المطعون
حقاً لقد مزقت دمشق كفن التاريخ وخارطة الذل في حرب تشرين ولذلك يليق بها أن تأمر وتنهي .
مزقي يا دمشق خارطة الذل وقولي للدهر : كن فيكون
وهذا الأمر ليس طارئاً وإنما هو من طباع دمشق ومن قدرها كما العطر قدر الوردة والغناء قدر البلبل فعمر الشام عمر الوجود والتكوين :
قد قضى الله أن تكوني دمشقاً بك يبدأ وينتهي التكوين
ولم يكن نثر نزار قباني في انتصار تشرين أقل إفصاحا عن الإبداع الحقيقي لأديب متفرد متألق ومما كتبه في مقال له بعنوان : الزمن العربي ( إن إسرائيل تعرف أنها تحارب في قعر فنجان .. والذين يحاربون في قعر الفناجين يعرفون سلفاً أن حركتهم محدودة بجغرافية الفنجان وهشاشة البورسلين .. لذلك فهم يستميتون بجعل كل معاركهم خارج جدران الفنجان .. لأنهم يدركون أن دولتهم هي خزفية التكوين .. وأن كل أواني الخزف قابلة للكسر..)
هذا غيض من فيض إبداعات الشاعر النبيل نزار قباني في انتصار تشرين والفيض تكتب فيه مجلدات !!
د. غسان لافي طعمة
المزيد...