على الرغم من أنّ هذه الحادثة وقعت قبل ستين عاماً ونيّف ،غير أنّ الناس لا تزال تتناقلها ، فغدت من قصص الماضي « نفق ثور الكيبي»
ثلاث كلمات راح أهل القرية يتناقلونها ، وانتشر الخبر في القرى المجاورة . كثرت التعليقات. ثمة من أبدوا حزنهم لما حصل ،وثمة من لم يستطيعوا إخفاء شماتتهم ، غامزين من صاحب الثور «شعلان الكيبي».
فعندما أفاق شعلان الكيبي ،في الفجر كي يقدّم للثور غذاءه الخاص وهو خليط التبن وأنواع العلف فراعه ما رأى وسط الحظيرة ..
وللحظات لم يصدق عينيه.. فقد كان الثور ممددّاً بلا حراك …!! تقدم منه ..نهره..لكنه لم يتحرك …أعاد الكرّة …لكن دون جدوى…!!.
لايريد أن يصدق أن الثور قد نفق وهو في عنفوان قوته ونشاطه مع البقرات اللواتي يأتي بهن أصحابهن من القرية والقرى المجاورة كي يلقحن من أجل أن يحملن ويلدن عجولاً ذكوراً وإناثاً .فلم يكن هناك ،في كل هذه القرى سوى «ثور الكيبي» يقوم بهذه المهمة .فما أن تظهر الآثار على هذه البقرة أو تلك الدالّة على أنها تحتاج إلى تلقيح ،حتى يأخذها صاحبها إلى «ثور الكيبي» ليلقحها ،مقابل خمسين ليرة سورية يدفعها صاحب البقرة نقداً .ويحصل في بعض الأيام أن تفد إليه سبع أو ثمان بقرات ،وهذا معناه أن يحصل شعلان الكيبي على أربعمائة ليرة سورية .وهذا المبلغ في تلك الأيام ، كان يعادل ثلاثة أضعاف الراتب الشهري لموظف حكومي.
كنا صغاراً تلك الأيام ،وكنا نسأل أهلنا عما نسمع عن هذا الثور ،حتى خيل لنا أنّه «أسطورة» وفي طريقنا إلى المدرسة ، كنا نختلس النظر من شقوق البوابة الخشبية إلى الثور الضخم في باحة الدار … ونشعر بالخوف لكثرة ماسمعنا عنه وعن قوته الخارقة ،والثروة التي يجنيها أصحابه بسببه..!!
كان الناس يتناقلون حكايات عن الثور ،أكثرها غير صحيح .ولعل إحدى الحكايات ، وهي آخر حكاية عنه ، ولايزال الناس يتداولونها ،هي قصة ذلك الفلاح الذي جاء من خارج القرية ومعه بقرة يريد تلقيحها من ثور الكيبي .غير أن ما حصل كان مذهلاً .
لم يستطع الثور القيام بمهمته ،بعد محاولات عديدة . شعر شعلان أن قلبه يكاد يتوقف.
«ثور الكيبي يحصل معه هذا »…!!
تساءل الناس غير مصدقين ،لكنه بالفعل لم يقدر على تلك التي كانت توهمه أنّها مستسلمة له ،لكنه ماإن يكاد يهمّ بها حتى تتحرك بسرعة ، يعيد المحاولة .. لكن دون جدوى .وهكذا فبعد أربع أو خمس محاولات ،طلب شعلان من صاحب البقرة العودة من حيث أتى وقال له غاضباً:
« لاأريد أن أراك ،ولا أريد أن أرى بقرتك في هذه القرية بعد اليوم…»!!
صبيحة اليوم التالي وجد الثور ممداً بلا حراك.
كثرت التعليقات والتكهنات حول سبب نفوق الثور .
مختار قرية الكيبي عابد الكيبي:
«أشعر أنّ أسرتنا أصيبت بكارثة .
هذه المهنة لدينا منذ عشرات السنين.الثور في ذروة قوته وعنفوانه لكن ..كان الله في عون ابن عمي وعون أسرتنا»
راعي الأبقار هواش :
لم أصدق ماسمعته أول الأمر .لابدّ أن سوءاً ما أصاب الثور.
ربما دسّ له بعضهم السمّ.. لامصلحة لأحد سوى بيت «فلان» الذين جاهروا بنيتهم اقتناء ثور يقوم بنفس المهمة .. ليضعوا حدّاً،على حد قولهم لاحتكار هذه المهنة التي تدر ذهباً…»
خدوج … زوجة شعلان الكيبي :
«لاأحد يقوم بهذا العمل الفظيع سوى ضرتي مريومة التي تكاد تموت غيظاً لأن شعلان يحبني فأنا زوجته الثانية الجديدة ..وقد قالت ذات مرّة لن يهدأ لها بال حتى ترى شعلان على الحديد….!!»
الغجرية نور:
في أثناء تقديمها المواساة لأسرة الكيبي ،قالت «إن عين حسود قضت على الثور …كان على شعلان صاحبه أن يضع خرزة زرقاء في عنق الثور»
صفوان الألماني الذي يدرس الطب البيطري في ألمانيا الديمقراطية وصادف وجوده في القرية في أثناء الحادثة قال :
«ربّما تكون مؤامرة خارجية ، أحد ما من خارج القرية تسلل ووضع السم للثور المسكين… لايجب أن نحصر شكوكنا بأهل القرية… بل الأهم أن نوسع دائرة شكوكنا…!!»
و أنا كاتب هذه القصة:
«سمعت هذه القصة من أبي ومن جدي رحمهما الله .فالثور القوي أصبح يقال عنه مثل ثور الكيبي. هذا يعني أنّ الثور دخل تاريخ القرية وحكاياتها وتراثها الشعبي .. وتّذكر من خلال قصته أسرة الكيبي والأسر المنافسة لها وشعلان وزوجتاه والمختار وغيرهم لقد بقي ذكرهم بفضل ذلك الثور ….!!»
عيسى اسماعيل