نافذة للمحرر…أدباء في الذاكرة …مــي زيادة

أعترف أن أول نص قرأته للأديبة : مي زيادة كان نصاً مدرسياً أي منشوراً في كتاب مدرسي ، ولم أعد أذكر المرحلة التي يدرس فيها ، ولكنني أذكر أنه نص رومانسي شفيف موضوعه رثاء عصفور كنار كان يؤنس وحدتها في منزلها ووجدته ذات صباح ميتاً ، وما زالت في ذاكرتي بعض عباراته الشعرية :
« مات صغير حشاشتي ، ومؤنس وحدتي …».
كما أعترف أن معرفتي الواسعة بهذه الأديبة اللامعة كانت في الجامعة إذ قرأت كتاب – في أديبة الشرق والعروبة – لمؤلفه : محمد عبد الغني حسن . فعرفت أنها لبنانية بعلبكية ، انتقلت أسرتها إلى مصر ، وهناك إجماع على أنها أديبة مرهفة الشعور ، رومانسية النزعة وامرأة متمسكة بالتقاليد الشرقية تحررت فكرياً ولكنها اتصفت بالانطواء على النفس ، نشأت في بيئة متدينة محافظة تعيب على الفتاة البوح بعواطفها ، ويوم اقتحمت مجتمع الرجال ، وبرزت فيه صحفية ممتازة وشاعرة بالفرنسية وأديبة وخطيبة بالعربية وصاحبة ندوة أدبية في الثلث الأول من القرن العشرين ، حظيت باحترام المجتمع العربي وإعجابه ، لا لمواهبها فحسب بل لحسن سلوكها ولطفها ولباقتها ، وقد أحبها كل من حضر ندوتها ، وصرح بعضهم بذلك كمصطفى صادق الرافعي الذي قال :
إن لم أمتع بميّ ناظري غداً أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
ولكنها أحبت جبران خليل جبران وعبّرت عن حبها بالمراسلة المتبادلة ولم يلتقيا أبداً . لقد أحبت مي جبران حباً كبيراً ، أحبته كثيراً وبحنو ، كما تقول في مطلع رسالة موجهة إليه في الواحد والعشرين من أيار عام واحدٍ وعشرين وتسعمئة وألف .
وقد قرأت كتاب مي زيادة – ظلمات وأشعة – وأثارت إعجابي مقالة بعنوان : – كن سعيداً – تقول فيها :
« كن عظيماً ليختارك الحب العظيم ، وإلا فنصيبك حب يسفّ التراب، ويتمرغ في الأوحال ، فتظل على ما أنت ، أو تهبط به بدلاً من أن تسمو إلى أبراجٍ لم ترها عين ولم تخطر عجائبها على قلب بشر».
وقد ألم بها انهيار عصبي بعد موت والديها وجبران خليل جبران ، وكان سببه كما ذكر صديقاها المقرّبان : الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد أنها فرضت على نفسها حصاراً قاسياً ، وأسرفت في كبت مشاعرها في شبابها مما أدى إلى تدهور حالتها النفسية في كهولتها وكم تمنّى عليها جبران خليل جبران في رسائله أن تتحرر من عقدها النفسية وشكوكها . تمنّى ذلك حرصاً على سعادتها وسعادته وعد اليوم الذي تسلم فيه رسالة ودية منها ، أبدت فيها مشاعرها نحوه : فجراً ليوم جديد . وبعد وفاة جبران بخمس سنوات عادت إلى لبنان لتمضي ثلاثة أعوام من الجحيم قضتها متنقلة بين – العصفورية – ومصح الدكتور : ربيز وبيت متواضع في بيروت ، عادت بعدها إلى القاهرة عام تسعة وثلاثين حيث عاشت عامين ونيف مريضة يائسة ، فذوت شيئاً فشيئاً إلى أن رحلت عن هذه الدنيا في التاسع عشر من تشرين الأول عام واحد وأربعين .
د. غسان لافي طعمة

المزيد...
آخر الأخبار