خطوة لمواجهة الغلاء… عودة بعض المهن القديمة تلبية لاحتياجات المواطن أمر إيجابي في ظل كابوس الأسعار

مهن عادت لتكون مورد رزق و لتستقطب يداً عاملة ذات باع و أخرى عاطلة عن العمل ….

كغيرها من السيدات القاطنات في الحي تتجه « أم أكرم » بين الفينة والأخرى إلى ورشة الخياطة الصغيرة التي افتتحت منذ سنوات وذلك لإصلاح أو تعديل ألبسة قديمة تخص معظم أفراد عائلتها ، فبعض القطع تحتاج إلى تصغير ، وبعضها الآخر يحتاج إلى « رتي « أو إضافة تفاصيل صغيرة لتتناسب مع الموضة الدارجة في الأسواق من ألبسة حديثة أصبحت أسعارها لا تتناسب مع الدخل الأسري ،والذي بدوره أصبح عرضة للاقتناص من قبل مستلزمات أخرى وحاجيات ضرورية .
هذه إحدى الخطوات التي تخطوها الأسرة السورية لمواجهة ظاهرة غلاء أسعار الألبسة،والأحذية ، ومستلزمات أخرى ، وهي محاولات فردية وعائلية لإعادة ترتيب رتم الحياة اليومية ، خاصة في ظل غلاء أصبح شبحا يخيم على كل التفاصيل ، ويتحكم به التاجر.

ألبسة قديمة .. تعود جديدة
الكثير من الأسر السورية أعادت للحياة والاستعمال اليومي ما كانت تركنه من ملابس في خزائن الألبسة في مرحلة الاقتدار والرفاهية..
سمية – موظفة قالت : ما من وسيلة لمواجهة ظاهرة غلاء الأسعار، وخاصة الألبسة المرتكزة أساساً على جشع التاجر، إلا بمزيد من التقشف، وبمزيد من تنظيم إنفاق الشراء، ومن تجربتي الشخصية أنا أتألم كثيراً لكي أتكيف مع هذا الواقع بعد سنوات من الرخاء، لقد ارتفعت الأسعار عدة أضعاف، ولذلك أحجمت عن الشراء، و بدأت باسترجاع ما كان مركوناً من ملابس في خزانتي منذ عدة سنوات، وقد عممت هذه التجربة على كامل أفراد عائلتي وتأقلمنا جميعا مع هذا الوضع ، وهناك تجارب موازية لتجربتي من قبل بعض الأصدقاء الذين أعرفهم شخصياً.
50 % تقشف
بعض الشابات وهن طالبات جامعيات وموظفات أكدن أن عملية الشراء وصلت إلى مرحلة تقشف تجاوزت في نسبتها خمسين بالمئة من قيمة المشتريات المعتادة. ..
رزان – موظفة تقول : أصبحت الأسعار مرعبة جداً مقارنة مع دخلنا الشهري كموظفات، فقد تصل قيمة أي قطعة ملابس نسائية مثلاً في الوقت الراهن إلى أربعة أضعاف سعرها الحقيقي ، وهذا وضعنا أمام واقع مرير وخيار صعب جداً، هو أنه علينا اختيار أمراً من اثنين إما الطعام أو اللباس، ولذلك ولضرورة الاهتمام بالمظهر العام ومن أساسياته اللباس ، توجهت نحو إعادة تدوير الملابس القديمة ، بعضها لي ، وأخرى لأخواتي ويكون ذلك بتغيير بسيط في تفاصيلها لتناسب الموضة ، أو لكي لا يكتشف البعض أنها قديمة وتم ارتداؤها سابقاً وهذه محاولة مني للتأقلم مع الواقع الحالي
وتحدثت سوزان عن تجربتها الشخصية في مجال إعادة تدوير ملابسها ورتيها فقالت: من أهم ما يمكن أن أقوم به لمواجهة واقع الأسعار وارتفاعها الفاحش وخصوصا الملابس ،القيام بإعادة إصلاح بعضها عند تعرضها لأي مشكلة فنية، وهنا يلعب الذوق والأفكار الجميلة التي قد أبدعها من مخيلتي دوراً مهماً لكوني أهتم بالموضة والفنيات الجميلة التي تضفي رونقا على الملابس، فأنا أمتلك حساً فنياً وذائقة بصرية تمكنني من تحقيق التجانس الفني بما أقوم به، و شخصياً أعتبر هذه المبادرة تحدياً لجشع التجار، لأن ما يقومون به غير منطقي بغض النظر عن الحجج والمبررات التي يسردونها في كل مناسبة ، ولا يتناسب وأخلاقيات تجارنا الذين تعاملنا معهم في سنوات سابقة
وسائل تقشف ..متعددة
لم تجد العديد من السيدات في الاتجاه إلى اقتناء الملابس المستعملة شيئاً من العيب أو النقص ، فعملية التقشف ومواجهة جشع التجار لم تتوقف عند خطوة تدوير الملابس والأحذية ، بل رافقتها تجربة أخرى أيضاً مع ملابس «البالة»، فرغم أنها أوروبية غدت أرخص من الملابس المحلية الصنع، وقد وجد العديد مبتغاهم فيها، ودعت إحداهن الجميع للتكيف والتأقلم نفسياً مع كل المستجدات ومنها التسوق من «البالة»، فهي كما قالت تحتوي بضائع أوروبية ذات جودة عالية وزهيدة الثمن مقارنة مع الصناعة المحلية المرتفعة الثمن . ولكنها أكدت أيضا أن هذا بدوره يضطرنا إلى الاتجاه لورشات الخياطة لتعذر الحصول على المقاسات المناسبة مما يؤدي لتعديل بعض الألبسة .
الأناقة تثبت وجودها
أما أمل – موظفة فترى أن الأناقة بالعموم ليس بالضرورة أن تكون مصحوبة بالترف، وإنما الذوق وحسن التدبير، وتضيف: يمكن أن يرتدي الشاب أو الفتاة «سترة» لها عدة سنوات مركونة في خزانة الألبسة مع « بلوزة « جديدة، فتشكل أناقة جميلة وجديدة نوعاً ما على رتم الملابس اليومية، وهذا أمر مطلوب في وقتنا الحالي في ظل جشع التجار وارتفاع أسعار الملابس إلى حد لا يمكن أن يطاق. وأكدت : إن النظافة الشخصية جزء مهم من الأناقة، وهي تعكس حالة من الأناقة الجاذبة في المجتمع المحيط، ورغم أننا لا نستطيع محاربة جشع التجار، إلا أنه وبكل تأكيد نستطيع التحايل عليهم بذكاء، فليس من الضروري لأبدو أنيقة أن أشتري كل يوم قطعة ملابس جديدة، وإنما «الأناقة» ومعرفة الملائم للجسد من الملابس هو ما يمكن أن أصفه بالأناقة الشخصية ..
و تابعت حديثها قائلة :عدت إلى بعض القطع القديمة التي حدثت فيها بعض العيوب، وتعاقدت مع خياط ماهر لإعادة إصلاحها، والفكرة هنا أني بحثت عن هذا الخياط كثيراً، لأن أهم ما يميزه انخفاض أسعار أجوره الحرفية، وهي مصادفة أشعرتني بالسعادة لأن التوفير كان سيد الموقف مع تحقيق المظهر الجديد والجميل بنفس الوقت
تغييرات صغيرة .. تكفي
سوسن – مدرسة ،كان لها رأيها الخاص أوضحته بقولها: في الماضي كانت السيدة ترتدي ملابسها لأيام متواصلة ولفترات طويلة، ولكن .. مع تطور المجتمع قلبت القاعدة، وأصبح من البديهي أن تبدل ملابسها في كل ظهور لمجتمعها المحيط أو عملها الوظيفي، و بخطوة جبارة من سيدة مجتمعنا أظهرت أنها سيدة جديرة بالاحترام، حيث تأقلمت مع واقعها، وتكيفت مع إمكاناتها وقدراتها الشرائية، وهذا أمر طبيعي وعادي في هذه الظروف الصعبة، إضافة إلى أنه يوجد تَغييرات صغيرة يمكن لنا نحن النساء أن نفعلها باستمرار في ملابسنا القديمة تبقينا بمظهر جديد فيه الكثير من الأناقة ، إضافة إلى أنه تتواجد محال تجارية مرتفعة الأسعار، ومحال أخرى أسعارها منخفضة أو مناسبة لدخلنا يمكن التسوق منها، وبالعموم نحن أصحاب الدخل المحدود لا نشتري من أول محل تجاري ندخل إليه للتسوق، وإنما نبحث في أكثر من متجر لنقوم بالشراء، ونحاول أيضاً تطبيق قطع ملابس مفردة بعضها مع بعض لتصبح لباساً كاملاً متناسباً يعطي نتيجة جمالية متناسقة وملائمة لأناقة السيدة، ومتوافقة وإمكانياتها المادية .
الملابس المدرسية والحقائب .. أولا
استقبل أمجد – 12 سنة العام الدراسي الجديد بلباسه المدرسي القديم بعدما أصلحه على أيدي أصحاب المحال المتخصصة بذلك ، حيث تعذر على والده « الموظف » شراء ملابس جديدة له بسبب افتقاره للمال ولاسيما أن لديه أربعة أولاد مازالوا في سن المدرسة ويحتاجون إلى اللباس والأحذية والحقائب المدرسية والقرطاسية ، إضافة إلى ما رافق افتتاح العام الدراسي من متطلبات أخرى كالمونة وتحضيرات مستلزمات الشتاء الذي بات على الأبواب ، وهذا دون حساب المصاريف اليومية للطعام ، والأدوية ، والمواصلات ، وغيرها .. وأمجد كغيره من الأطفال كان يشعر بالأزمة المالية التي يمر بها والده والكثير من أسر أصدقائه وجيرانه، ومع ذلك وبأحلام الطفولة كان يتمنى الذهاب في أيامه الدراسية الأولى بلباس مدرسي جديد، لكن – ما بيده حيلة – ولاسيما أن الأمر لم يقتصر عليه فقط فأشقاؤه ينتهجون نفس الطريقة لإعادة تأهيل ملابسهم المدرسية إضافة إلى الحقائب، و الأحذية ، ويقول : أتمنى أن يتحسن الوضع المادي لأبي حتى يلبي لي ولأخوتي كل ما نحتاجه، ونحلم به من متطلبات
الإقبال على محال « الرتي والاسكافي»
تشهد محال « رتي « وترقيع الملابس وتصليح الأحذية مع بداية العام الدراسي أو فصل من فصول السنة ، (ونحن اليوم على أبواب الشتاء) إقبالًا متزايدًا عليها من قبل الزبائن على خلاف باقي المحال التجارية التي تبيع الملابس الجاهزة أو الأحذية، في أسلوب بديل اعتمدت عليه غالبية العائلات ، لمعالجة الأمر بأقل تكلفة ممكنة وحرصها على توفير مستلزمات أكثر أهمية وتقليص الأقل منها….
في أحد محال تصليح الأحذية المتواضع الإمكانيات تكدست الرفوف بالأحذية على كافة أنواعها وبعض الحقائب المختلفة الاحتياجات ، جلس أبو محمود خلف ماكينة الخياطة الخاصة بالأحذية وتناثرت حوله عدة العمل وبعض الأحذية ذات الطلبات السريعة ، ولدى سؤالنا عن مدى الإقبال على هذه « الخدمة المأجورة « قال : أصبح إصلاح الأحذية من الضروريات بالنسبة لبعض الأسر في ظل غلاء الأحذية الجديدة ولذلك هناك إقبال كبير من قبل العديد من الأهالي ،وخصوصا مع بداية العام الدراسي ،أو بداية فصل الشتاء ، وهذا أوفر للمواطن الذي هدته المتطلبات اليومية وقلة السيولة المالية بين يديه ، ومع بداية كل يوم جديد أستقبل العديد من طلبات الإصلاح حيث يقصد المواطنون المحل « لدرازة « أحذية أطفالهم بعدما دفعتهم الحاجة لذلك.
وفي مكان آخر ليس ببعيد وفي نفس الحي ينهمك زهير وهو يجلس خلف ماكينة الخياطة وحوله (الخيوط، علب المسامير، الصمغ ) وهي أحد المواد المستخدمة في هذه المهنة وسط أكوام من الأغراض التي تحتاج رتقها «كل حسب شكله والآلية المناسبة له .»..
أكد أحد الزبائن هناك أنه لم يشتر أي حذاء جديد لأبنائه سواء كان بالعيد أو المدرسة،وعلى الأغلب لن يشتري لهم أي أحذية شتوية ويجب عليهم تدبر أمرهم بالحذاء القديم حتى آخر رمق فليس لديه أموال تكفي لذلك ، وهو يتوجه إلى المحال المتخصصة في قطب الأحذية الممزقة أو الملابس لعلها تصبح بمظهر مقبول
وقالت إحدى السيدات أنها قامت بتصليح تمزق الأحذية الخاصة بأطفالها الثلاثة ليذهبوا بها للمدرسة، بعد أن اشترتها لهم سابقاً، فليس بمقدورها شراء بديل جديد لهم، رغم أنها تتمنى أن يتوفر لديها مال لشراء الجديد فنظرة الحسرة بعيون أطفالها لعدم اقتنائهم الجديد تحزنها
إيجاد البدائل هو الحل
موضوع الأسعار مرتبط بالسوق وعوامل عديدة، منها تكاليف الصناعة المرتفعة وأجور النقل واليد العاملة أيضاً، وجشع التجار وهو الأمر الأهم، وجميعها أضيفت على التكلفة الأساسية ، وهذا لم يرضخ المواطن الذي يوجد دائما البدائل .
للحديث عن ظاهرة إصلاح ما هو قديم والاستغناء عن الألبسة الجديدة ، وتأثير ذلك على السوق التقينا الدكتور محمد خالد الجاسم – اختصاصي إدارة أعمال وتسويق ،رئيس قسم إدارة الأعمال في كلية الاقتصاد – جامعة البعث فقال : في ظل استمرار الارتفاع الجنوني في الأسعار أصبح التحايل والاتجاه للبدائل هو السبيل الوحيد بالنسبة للمواطن ، فالأسرة السورية تلجأ لإعادة صيانة الملابس والأحذية في خطوة للتحايل على الواقع الحالي بأسلوب يبدو أقل تكلفة ، وفي نفس الوقت يحقق الغرض ، وذلك بسبب تراجع الوضع المعيشي والاقتصادي بشكل عام. ولهذا الأمر فائدة مادية ،ولكن بالمقابل يكون له انعكاسا سلبيا على المواطن (معنويا) فهو يشعر دائما بعجزه المادي أمام بعض المستلزمات الضرورية ، ومع ذلك يتغاضى عن هذه المسألة لأنه مضطر للتحايل
لا يوجد ثقة بالجديد
وأكد د. الجاسم أن الكثير من المنتجات الجديدة لم تعد تحصل على ثقة المستهلك من حيث صلاحيتها أو جودتها التي أصبحت متدنية أمام الجيل القديم من الصناعة، ولذلك نجد الكثير ممن يفضلون الاحتفاظ بالأشياء القديمة ذات الجودة العالية وإصلاحها إن اقتضى الأمر على أن يشتروا الجديد وخاصة الأدوات الكهربائية..
وهناك نظرة اقتصادية جيدة بالنسبة للمحال التي تختص بالترميم أو الإصلاح فهي تخلق فرص عمل جديدة ومع التطور وتقديم الأفكار الجيدة وتطوير المشاريع من الممكن لهذه المحال أن تكون نواة لظهور رواد الأعمال ( الرائد ) .. أما بالنسبة لتأثر الأسواق ، فنحن عندما نتحدث عن السوق يكون هدفنا الفرد المشتري الذي ينتفع، ويختار المناسب لإشباع حاجته ، وظهور أو بالأحرى عودة بعض المهن القديمة تلبية لحاجة المواطن يعد أمرا إيجابيا نظرا لحاجتها ، ولا يمكن حصر السوق بالملابس الجاهزة أو الأحذية فقط فنسبة الذين يتجهون إلى الإصلاح بدلا من شراء الجديد لا تؤثر على السوق الذي يشمل الكثير من مجالات الصناعة إضافة إلى المواد الغذائية..
وتحدد نسبة إنفاق الأفراد ما بين 60 – 70 % على الصحة والكهرباء والماء والطبابة أما نسبة الإنفاق على التصليح فتعد ضئيلة ولكنها بشكل عام تعتبر إيجابية للمواطن وللسوق لأنها تعتبر مجال لخلق فرص عمل جديدة ، أما الشركات التي تتأثر بهكذا ظاهرة فهي شركات فقدت مصداقيتها في السوق أصلا نتيجة لأدائها السيئ أو طريقة توزيعها السيئة أو عدم احترامها للمواطن ( المستهلك ) ..
مهن تعود بعد إنعاشها
مهن كانت في حالة احتضار بسبب قلة الزبائن أنعشها غلاء فاحش و فقر حال .. فالخياطة بعد أن أحالتها الألبسة الجاهزة إلى التقاعد .. عادت من جديد لتأخذ مكانها بين المهن الضرورية ، فأسعار الملابس لم تترك للكثيرين من محدودي الدخل خياراً إلا الحرص و الحفاظ على ملابسهم من عوامل زمن و تعديل المقاسات أو للتحايل على صيحات الموضة بإجراء بعض الإضافات ، و من جديد عادت مهارة حياكة الصوف لتزين الجلسات النسائية إما كمصدر رزق أو لكسوة أفراد العائلة ..
و للضرورة أحكام أعادت سيدات البيوت إلى مهارة الأمهات و الجدات نكاية بأطماع تجار .. ناهيك عن إمكانية إجراء التعديلات مع كل هبّة طول أو عرض لتعيش سنوات و تنتقل للأخوة الصغار ..‏ و لإنقاذ حذاء من تلف أصابه لا بد من زيارة الاسكافي الذي عاد ليتربع على عرشه كضرورة فرضتها موجة الغلاء حتى الوطني من الصناعات .. و لا بأس من دقة مسمار أو ترميم لنعل ذاب من كثرة استعمال .. مهن تراثية قديمة كالتنجيد و الرتي و غيرها الكثير كانت بمثابة المسعف للكثير من احتياجاتنا اليومية التي فرضتها أزمة اقتصادية طالت أغلب فئات مجتمعنا , وبالمقابل عادت لتكون مورد رزق و لتستقطب يداً عاملة ذات باع و أخرى عاطلة عن العمل ما أنعش مهناً كانت في طريقها للزوال .‏
منار الناعمة – بشرى عنقة

المزيد...
آخر الأخبار