تحية الصباح…من الذاكرة 41

-في عام 2006 وُجّهت لي دعوة لزيارة إنطاكية، مع وفد كبير من مختلف المدن السوريّة، يوم كانت العلاقات مع النظام التركي سمن وعسل، من قِبلنا، وربما لم يخطر ببال أحد أنّ أردوغان الأخونجي، «العصملّي»، سوف ينقلب ذلك الانقلاب، سافرت إلى اللاّذقيّة، وفيها دلّني الصديق القاص زهير جبّور على الكراج الذي عليّ أن أقصده، وأهل زهير نزحوا من لواء اسكندرون، ويعرف عنه ما لا أعرفه.
حين وصلت إلى الحدود الفاصلة بين سورية الآن، وأوّل حدود إنطاكية، وضعتُ جواز السفر بانتظار الإجراءات الرّوتينيّة، مرّ قربنا رجل متجهّم الوجه، يكاد يتفرّس في كلّ ما حوله باشمئزاز، أدركت بحدسي أنّه من رجال الامن التركي.
هذه الجبال الخضراء التي أعبرها الآن باتجاه إنطاكية هي أرض سوريّة، اقتُطِعت بتآمر عدد من القوى الخارجيّة، وتغاض، وتفريط، من أهل الحلّ والربط في ذلك الوقت، كلّ ما، هنا يقول أنا سوري، وثمّة حنين حزين يطفو في الداخل.
لقد حاول بعض أدباء أهل أنطاكية أن يمدّوا جسورا باتجاه الوطن الأم بحذر يجنّبهم أيّة مسؤوليّة قانونيّة، عبر تبادل الدعوات بين أدباء ( أتراك)!! واتحاد الكتاب العرب في سوريّة.
يا إلهي الأحياء الشعبيّة في إنطاكيّة تشبه الحارات القديمة في أيّة مدينة سوريّة.
لقد حظرت الحكومات التركيّة المتعاقبة على أهل ( اللواء) الحديث باللغة العربيّة، وإذا صادف أن أخطأ احدهم في ذلك فإنّ أجهزة الأمن تهينه ضرباً، وشتماً، وطرحا على الأرض أمام أعين الجميع، ليتّعظ الآخرون، وهكذا بعد ثلاثة أو أربعة أجيال لم يعد أحد يتكلّم العربيّة، والذين ورثوا شيئا من ذلك، عبر بيئتهم البيتيّة، يتكلّمون بلهجة لم تعد موجودة مفرداتها إلاّ في ذاكرة الشيوخ.
-في مكان من أمكنة أنطاكية مرصوف بالحجر اللّبّون، جلسنا في مقهى كراسيّه خشب، صغيرة، مجدول عليها القشّ الذي عرفناه في مقاهينا القديمة، يمرّ بنا تلامذة المدارس فينظرون إلينا بأعين ملئها الحبّ، وجسور لغتنا الأم منسوفة من الأساس، الشوارع عليها صور « غيفارا»، إنّه رائحة اليسار في مواقع الفقر، بعض المقاهي فيها مكتبات، يستطيع الجالس أن يأخذ أيّ كتاب ويطالعه ويعيده لمكانه بعد الانتهاء منه.
عرفت من أحد مَن يتكلّمون اللهجة الساحليّة القديمة أنّ الذين ينتسبون للقوات المسلّحة التركيّة، من أبناء اللواء ، لا يسمح لهم بالترفيع إلاّ لرتبة « رائد».
-سألت أحدهم لمَن تصوّتون في الانتخابات، فقال: «لحزب الشعب»، لأنّه حزب علمانيّ، ولفتني إلى ضرورة الحذر من « اردوغان» فهو من جماعة الاخوان المسلمين.
-التقينا بعدد من الشباب من أهل أنطاكية كانوا هاربين في بلدان أوروبا من ملاحقة الأمن التركي، لأنّهم ينتمون لمنظمات يسارية، وحين حدثت بعض الانفراجات، عادوا إلى بلدهم وهم على حذر، فهم ليسوا واثقين من أنّ هذه الحالة ستستمرّ، بحكم تجاربهم، وبحكم معرفتهم بطبيعة النظام التركي.
-في أهل اللّواء عدد من التجار، وفيهم من نزح إلى اسطنبول، أو أنقرة، طلبا لتوسعة تجارتهم، ولكنّهم جميعا مرصودون من قبل الأمن التركي، ويشكو من هذه الأجواء الأمنيّة بعامّة كلّ الشرائح لاسيّما في زمن اردوغان، فهم يحصون عليهم أنفاسهم، والمظهر الديموقراطي المطروح ليس أكثر من مرحلة، كما يقدّرون، تمهيدا لما سيأتي.
في حيّ « الطّابيات» بانطاكية دعينا لإلقاء بعض قصائدنا، فألقيناها على مسامع أهل لنا ليس فيهم من يفهم العربيّة إلاّ القليل النادر، وأعقب ذلك حفل موسيقيّ أقامه عدد من الشبّان، فقدّموا عزفا وغناء جميلين، وكان لافتا أنّهم غنّوا أغنية « يا هلا بالضيف»، غنّوها بالعربيّة المشوبة بلكنة من أُجبر على أن يلتزم اللغة التركيّة وحدها،
-أهلنا في اللواء السليب، سلاما لكم، من جيل مازال يأمل أن تعود تلك الأرض لحضن الوطن الأم…

 عبد الكريم الناعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار